تهدد التوترات المستمرة بين ألمانيا وفرنسا بشأن اتفاقية التجارة الكبرى بين الاتحاد الأوروبي ودول “ميركوسور” في أميركا الجنوبية، وحدة الكتلة نفسها.
ففي خطوة حاسمة، سافرت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، الخميس، إلى أوروجواي في محاولة لإبرام الاتفاقية التجارية التاريخية، التي تدعمها برلين بقوة باعتباره فرصة حيوية لدعم الاقتصاد الألماني، بينما ترفضها فرنسا بشدة، متخوفة من تأثيرها السلبي على قطاع الزراعة في البلاد.
وقالت صحيفة “بوليتيكو” الأميركية إن أولى خطوات فون دير لاين، وهي ألمانية الجنسية، في ولايتها الثانية ستؤدي إلى تأجيج الخلاف الحاد بالفعل بين ألمانيا وفرنسا، مما يهدد الأُسس التي بُني عليها الاتحاد الأوروبي.
وتجمع “ميركوسور” هو تكتل اقتصادي في أميركا اللاتينية يهدف إلى تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء، ويضم الأرجنتين والبرازيل وأوروجواي وباراجواي وبوليفيا وفنزويلا، ولكن عضوية الأخيرة معلقة منذ 2016.
الموقف الألماني: “ميركوسور” فرصة اقتصادية حيوية
بالنسبة للألمان، فإن إمكانية إبرام مثل هذه الاتفاقية تعد خبراً رائعاً، إذ أنه مع تزايد المخاوف بشأن تراجع الصناعة في البلاد، فإن اتفاقية “ميركوسور” تمثل فرصة كبيرة لمساعدة برلين في إيجاد أسواق جديدة لصناعاتها المتعثرة.
وقالت جماعة الضغط الألمانية المعنية بصناعة السيارات VDA، الخميس، إن “إبرام هذه الصفقة يعد أمراً بالغ الأهمية”.
الموقف الفرنسي: مخاوف من تأثير الاتفاق على المزارعين
أما بالنسبة للفرنسيين، فإن زيارة فون دير لاين إلى مونتيفيديو تعد بمثابة “اللعنة”، إذ ينتشر رفض إبرام اتفاقية “ميركوسور” مع الأرجنتين والبرازيل وأوروجواي وباراجواي وبوليفيا داخل كافة الأوساط السياسية الفرنسية.
ويخشى الفرنسيون من أن تؤدي الاتفاقية، إلى تقويض المزارعين من خلال تدفق الدواجن واللحوم الحمراء الرخيصة من أميركا اللاتينية، مما قد يثير الغضب الشعبي ضد المؤسسة الفرنسية والاتحاد الأوروبي.
اختبار لصلاحيات المفوضية الأوروبية
“بوليتيكو” أشارت إلى أن الخلاف بين باريس وبرلين يعد قضية حساسة للغاية بالنسبة للاتحاد الأوروبي بأكمله، وذلك لأن التفاوض على الصفقات التجارية يعد من أهم الصلاحيات التي تؤول إلى المفوضية الأوروبية نيابةً عن جميع بلدان الكتلة الـ 27، لكن اعتراضات فرنسا المتكررة على اتفاقية “ميركوسور” تثير غضب القادة الألمان إلى الحد الذي يجعلهم يشككون في جدوى تعامل بروكسل مع قضايا التجارة، بل ويقترحون أنه من الأفضل أن تستعيد برلين السيطرة على سياستها التجارية الخاصة.
واعتبرت الصحيفة أن مثل هذا التنازل الكبير عن بعض الصلاحيات سيثير تساؤلات كبيرة حول سبب وجود الاتحاد الأوروبي من الأساس.
ورأت “بوليتيكو” أن ذهاب فون دير لاين إلى مونتيفيديو بعد مرور أسبوع واحد فقط على بدء ولايتها الثانية، “مجازفة كبيرة” من جانبها، خاصةً في ظل الأزمة السياسية المتصاعدة في فرنسا، التي انهارت حكومتها مساء الأربعاء.
وأشارت الصحيفة إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قاد حملة لسنوات لتعطيل إبرام الاتفاقية، قائلة إن مكتبه تحدث إلى فون دير لاين الخميس، وأخبرها أن “الاتفاق مازال غير مقبولاً في شكله الحالي”، وتابع: “سنواصل الدفاع عن سيادتنا الزراعية بلا هوادة”.
مخاوف من انفصال أكبر اقتصادين في الكتلة
ومهما كانت نتيجة رحلة فون دير لاين إلى أوروجواي، فإن المخاوف باتت تتزايد من حدوث انفصال بين أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي، وهما العضوان المؤسسان للكتلة، إذ قد تستمر ألمانيا في دعم الاتفاقية، فيما تظل فرنسا رافضة لها.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول فرنسي، طلب عدم الكشف عن هويته، قوله: “لقد ربحوا المعركة قصيرة الأجل، لكن الحرب طويلة الأجل للحفاظ على الوحدة الأوروبية قد تتأثر”.
وعلى عكس ذلك، فإن المزاج في ألمانيا يبدو أكثر احتفالاً، إذ قالت إيزابيل كاديمارتوري، من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يتزعمه المستشار الألماني أولاف شولتز، في نقاش داخل البرلمان: “هذا يوم جيد حقاً لأوروبا وأيضاً لألمانيا، لقد حاربت هذه الحكومة الفيدرالية بكل طاقتها لضمان التوصل إلى اتفاقية التجارة الحرة هذه”.
الحشد لرفض الاتفاقية
وقالت الصحيفة إن المعركة بين ألمانيا وفرنسا تبدو “صعبة” للغاية، حيث سارعت برلين وباريس إلى حشد الحلفاء مع تسارع المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وتجمع “ميركوسور” على مدى الأشهر الأخيرة.
وتسعى باريس إلى حشد الأصوات المعارضة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي قد تحتاجها لوقف المضي قدماً في إبرام الصفقة في مجلس الاتحاد الأوروبي، إذ سيتطلب الأمر الحصول على دعم دول تمثل 35% من سكان الكتلة، وبينما انضمت بولندا مؤخراً إلى المعسكر المعارض للاتفاقية، فإن إيطاليا لم تغير موقفها بعد، مما يعني أن ماكرون لا يزال يفتقر إلى الأصوات التي قد يحتاجها لإعاقة إتمام الصفقة.
لكن فرنسا لم تتوقف عن المحاولة، إذ تقول ماري بيير-فيدرين، وهي نائبة أوروبية متحالفة مع ماكرون: “لقد تحدث رئيس الجمهورية (الفرنسي) مع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني للتأكد من أن الصوت الفرنسي ليس الصوت الوحيد الرافض للصفقة، وتحدث عن الأمر مع فون دير لاين، كما يقوم الوزراء بدورهم أيضاً، وكذلك سفيرنا لدى الاتحاد الأوروبي.. الجميع يلعبون أدوارهم على كل المستويات لإيصال هذه الرسالة”.
لكن على الرغم من المخاوف بشأن تدفق لحوم البقر والدواجن الرخيصة من تجمع “ميركوسور” إلى السوق الأوروبية، فإن التحذيرات الفرنسية وقعت على آذان صماء، بحسب تعبير الصحيفة.
ويقول كريستوف جرودلر، وهو عضو فرنسي آخر في البرلمان الأوروبي من معسكر ماكرون الليبرالي: “لم يكن بإمكان فون دير لاين اختيار لحظة أسوأ من هذه، إنه خطأ كبير أن تفعل هذا الآن، إذ أنه يُعطي انطباعاً بأنها تستغل الأزمة في فرنسا لمحاولة المضي قدماً (في إبرام الاتفاقية) بمفردها”.
غضب مشتعل
وعلى الرغم من الاضطرابات السياسية الحالية في فرنسا، فإن برلين ومؤيدي الاتفاقية يزعمون أن تعميق العلاقات مع دول “ميركوسور” هو مسألة تتعلق بالمصداقية الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي في المقام الأول، وذلك في وقت يوشك فيه الرئيس الأميركي المُنتخَب دونالد ترمب على إشعال حرب تجارية شاملة بمجرد توليه مهام منصبه رسمياً في يناير المقبل.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول حكومي من إحدى الدول الكبيرة في الاتحاد الأوروبي قوله إن “رئيسة المفوضية تضع مصالح الاتحاد بأكمله في اعتبارها، وهذه المسألة تمثل قضية استراتيجية وجيوسياسية بامتياز”.
وأضاف: “إذا كنا نقول دائماً إن أوروبا لابد أن تبدو قوية في العالم وأن تواكب الصين والولايات المتحدة، فلا يمكننا أن نقول إننا لن نفعل ذلك من خلال اتفاقية بهذا الحجم”.
مخاوف من تصاعد المشاعر المُعادية للاتحاد الأوروبي
ووفقاً للصحيفة، فإنه يمكن أيضاً النظر إلى الاتفاقية باعتبارها فرصة لألمانيا للانتقام، وذلك بعد أن مضت المفوضية الأوروبية قدماً في إجراء تحقيق بشأن السيارات الكهربائية الصينية، والذي دعمته باريس، لكنه أثار استياء برلين التي وجدت نفسها على الجانب الخاسر في التصويت على فرض تعريفات جمركية على هذه السيارات، بينما احتفلت فرنسا مع الجانب الفائز.
وذكرت “بوليتيكو” أن إبرام الصفقة على حساب فرنسا يثير مخاوف أيضاً من أن يؤدي الأمر إلى تأجيج المشاعر المُعادية للاتحاد الأوروبي القوية بالفعل في البلاد، مما يقرب زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان من الوصول إلى السُلطة.
وقال فرانسوا شيميتس، وهو خبير اقتصادي في مركز الأبحاث الفرنسي CEPII: “يمكنني أن أتخيل الانفجار الذي قد يحدث في الرأي العام الفرنسي ضد أوروبا إذا أبرمت المفوضية (الأوروبية) صفقة الميركوسور أثناء العاصفة السياسية التي تشهدها باريس الآن”، محذراً من “عدم الاستقرار السياسي الذي قد ينتج عن إبرام مثل هذه الاتفاقية الكبيرة في دولة حساسة للغاية بشأن الانفتاح التجاري، ولديها يمين متطرف حقيقي على أبواب السُلطة”.
ومن المقرر أن تتوقف فون دير لاين في باريس يوم السبت لحضور إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام أثناء عودتها من أوروجواي، لكنها قد تجد استقبالاً أقل حرارة هناك من ماكرون من ذلك الذي تلقته في مونتيفيديو، بحسب “بوليتيكو”.