يشتهر المغرب بتراث موسيقي هائل، وبطرق موسيقية متنوّعة، فيها تأثيرات نابعة من طبيعة المغرب الجغرافية الجبلية والبحرية والصحراوية، وتأثيرات الطرب الأندلسي والموسيقى الأمازيغية والأفريقية.
هكذا، استخدمت المرأة المغربية الموسيقى والغناء، دعماً للمقاومة إبان فترة الاحتلال الإسباني والفرنسي والبرتغالي للمغرب، وتعدّدت الوسائل والتضاريس وأنواع الشعر، من الملحون إلى الشعر والزجل.
ومضت فنانات عربيات على الطريق نفسه، إذ رأينا السيدة أم كلثوم وهي تدعم المجهود الحربي المصري، عن طريق جمع تبرّعات من ريع حفلاتها، واشتهرت أغنيتها “والله زمان يا سلاحي”، وأصبحت نشيداً وطنياً، كذلك المطربة سعاد محمد في أغنية “أنا الشعب” إبان العدوان الثلاثي على مصر.
كما ارتبطت السيدة فيروز بقضايا الإنسان العربي، وغنّت للعواصم العربية، ولا تزال حاضرة أغنيتها كلما تحدثنا عن المسألة الفلسطينية مثل “زهرة المدائن”، و”بحبك يا لبنان”.
عالمياً تحضر المغنية الأميركية جون بايز ومعارضتها لحرب فيتنام، والمغنية نينا سيمون، كرمز لحركة الحقوق المدنية في أميركا، والفرنسية إديث بياث ودعمها للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. كما اشتهرت المغنية ميمونة يوسوفا من جنوب أفريقيا بأغانيها ضدّ الفصل العنصري، واستخدمت صوتها كمنبر دولي لمقارعة الظلم والاستعمار، ولقبت بـ”أم أفريقيا” وسواها.
اللافت، انحسار هذا النوع التضامني من الغناء، ولكن، أعادت الحرب على غزة ولبنان وسوريا، هذا المناخ، وخصوصاً مع أصوات مثل، دلال أبو آمنة، سناء موسى، ناي البرغوثي، جوليا بطرس وآخرين.
رسائل مشفّرة
تعدّ الموسيقى من أقوى الوسائل الثقافية التي استخدمتها النساء في المغرب، للتأثير في حركات المقاومة، من خلال إقامة المراسم الاجتماعية والحفلات، كوسيلة لنقل شفرات لوجستية مزدوجة، وذات إيحاءات متّفق عليها.
على سبيل المثال، تشير كلمة الربيع أو الزهور، إلى رسالة مُشفرّة، تعني القيام بالعملية النضالية ضد الاستعمار في وقت الربيع، أو عند تفتّح الأزهار، كما تشير كلمة الجبل أو السهل إلى مكان العملية وهكذا.
فن العيطة أو الاستغاثة
العيطة هو فن شفهي موسيقي شعبي مغربي، ذو جذور تاريخية عميقة، يعود إلى القرن التاسع عشر. نشأ في المناطق الريفية، وخصوصاً في منطقة “الشاوية” و”عبدة” و”دكالة”، ويعدّ أحد أبرز أشكال التعبير الفني التقليدي في البلاد.
يحمل هذا الفن طابعاً شعبياً وتراثياً، ويتميّز باستخدام الزجل والغناء، كوسيلتين لنقل القصص والمشاعر المتعلقة بالحياة اليومية والقضايا الاجتماعية.
تأثّرت العيطة بالموسيقى الأندلسية والعربية، لكنها احتفظت بنكهتها المحلية التي تعكس ثقافة القبائل والمجتمعات الريفية المغربية. تعني العيطة “النداء” أو الاستغاثة، بوصف الغناء مشاركة، بل هو نداء إلى الجماعة للتفاعل والاستماع إلى الرسائل المُضمرة في الأغنية.
ركّزت بعض الدراسات التاريخية على فن العيطة وارتباطه بالمقاومة المغربية. تعتبر المغنية “الشيخة” خربوشة (حادة الزيدية) رمزاً بارزاً للمقاومة الشعبية المغربية، في أواخر القرن التاسع عشر، استخدمت الزجل والأغاني لانتقاد ظلم القايد عيسى بن عمر، وتقول:
“آ لعيسى وما نْتَا عَيْسَا آ لعيسى غير الشّيح عْلَى النّاسَا آ لعيسى غير الكْرْكَاع عْلَى الرَّاسَا”.
ازدهار الفن الشعبي
فضلاً عن مساهمة المغنية فاطنة بنت الحسين في أغانيها الرافضة للظلم، التي حملت رسائل مقاومة مشفّرة، والمغنية (حادة أو عطي) من منطقة الأطلس، إذ عبّرت أغانيها عن مقاومة القبائل الأمازيغية للظلم ورفع المعنويات.
تجب الإشارة إلى أن مصطلح “الشيخة”، أي المغنية التقليدية كان ذا رفعة واحترام حينذاك، ولكن يستعمل راهناً للذمّ والقدح.
تعدّ الدراسة المنهجية الأنثروبولوجية للشاعر والكاتب المغربي حسن نجمي بعنوان”غناء العيطة.. الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب”، من أبرز ما كُتب عن هذا الفن، الذي لا يُعرف وقت نشأته، أسوة بغيره من الشعر الشفاهي، لكن هناك من يرجّح ازدهاره زمن الاحتلال، وأن المقاومة أسهمت بانتشاره”.
وقام الكاتب ببحث ميداني معمّق، وهو عاد إلى كتب التاريخ والتراث الشعبي والموسيقى، واتصل بروّاد هذا الفن وعايشهم، وتعرّف على نمط حياتهم، وتمعّن في أغانيهم، ووقف على جزئياتها وتفاصيلها. فكان باحثاً أنثروبولوجياً واجتماعياً ونفسياً، ما أضفى على الكتاب قيمة علمية كبيرة”.
فنون لمقارعة الاستعمار
شاركت النساء المغربيات الموسيقيات، عبر أنواع أخرى في رفد وتعزيز دور المقاومة المغربية منها:
الرقص والموسيقى الأمازيغية: لم يكن الرقص الأمازيغي حركات وتسلية ولهو فحسب، بل كان وسيلة ثقافية سلمية لمقارعة الاستعمار، وهناك أنواع كثيرة من بينها “أحدوس”، “أحواش”، حيث شاركت النساء كشاعرات ومغنيات وعازفات، استخدمن الشعر والغناء لتحفيز المجتمع على مقاومة الاستعمار الفرنسي.
اشتهرت الشاعرة والمغنية رايسة فاضمة تامحراشت، بأغانيها النضالية “قريتي ستبقى هنا، سنحرث أراضينا هنا، وسنحرّرها، يا أم الأحرار”، والشاعرة تاوكرات أولت عيسى” أيا أسود الجبال، انهضوا اليوم، احملوا بنادقكم واحموا تامازغا”، فضلاً عن مغنيات أمازيغيات مثل رايسة فاطمة تاباعمرانت، فاضمة البوهالي، ورايسة عائشة تانيرت.
موسيقى كناوة: لا تحسب كموسيقى تقليدية فحسب، بل هي تعبير عن تاريخ معاناة العبيد الذين تم إحضارهم من أفريقيا، على الرغم من كونها بدأت كتعبير روحاني ثقافي.
لكنها لاحقاً أصبحت أداة فعّالة للمقاومة الاجتماعية والسياسية في المغرب، وخصوصاً في مواجهة الاستعمار والاستبداد، إذ كانت تُنظّم في أثناء فترة الاحتلال الفرنسي، جلسات كناوية سرّية، لنقل رسائل سياسية ملغّزة.
كانت الأغاني والإيقاعات والقصائد تحمل معاني التحرّر والوحدة في مواجهة المحتل ورفض التعسّف.
تقول ربيعة الكناوية، وهي واحدة من أبرز النساء اللواتي تألقن في عالم كناوة. اشتهرت بعزف “الهجهوج” وبصوتها الداعي إلى التحرّر من القهر والتهميش.
“آ الزمان واش هاذ شي معقول؟
عبيد بلا قيود يديرو الفصول
والقيد ماشي ديال الحديد
غير العقول اللي ما تكونش تقول”.
هناك أنواع موسيقية مغربية أصيلة أخرى اشتهرت في عالم المقاومة “الموسيقية” السلمية. وأثبتت النساء المغربيات أن الفن يمكن أن يكون سلاحاً قوياً في وجه الظلم والقهر، كذلك سيبقى إرث المرأة الموسيقية المغربية، شاهداً على دورها رغم عدم التوثيق، ودليلاً على جمالية اختيارها للموسيقى بوصفها مقاومة سلمية جمالية حرّة وفاعلة.
تراث شعري شعبي
تعتبر المرأة الريفية المغربية حاملة للتراث الشعبي الشفوي، وهي مستودعه ورافدة له، وهي تقوم بتلاوة الشعر أثناء الأعمال المنزلية، والترنيم لأطفالها، ولكن للأسف فقد تمّ تجاهل التراث هذا، أو لم يدوّن بشكل صحيح على الرغم من فعاليته وجماليته وبوصفه دليلاً سوسيولوجياً للمجتمع.
يقول الباحث المغربي قاسم الحادك: “إنها أشعار شفوية حيّة لأطراف فاعلة، عكست على نحو من التلقائية والصدق ما عجزت عن رصده أدوات التأريخ الأكاديمي، بكل ما أوتيت من دقّة علمية ونضج ومنهج وتراكم استقرائي”.
أضاف: ” تعتبر مقاومة المرأة المغربية للاستعمار الفرنسي من أبرز الموضوعات المنسية، وبقيت مهمّشة من قِبل البحث التاريخي الأكاديمي، ولم تنل بعد حظها من البحث والتنقيب”.
واعتبر أن ذلك يرجع أساساً إلى “سلطة الوثيقة المكتوبة وسيطرة النزعة النصية”، مشيراً إلى أهمية التراث الشعري الشفوي في “إضاءة مناطق الظل وسدّ الفراغ الذي يعرفه البحث التاريخي المغربي في موضوع المقاومة النسائية وصمود المرأة أسوة بالرجال، وخاصة في معركة “بوكافر” الشهيرة التي حدثت عام 1933، والصمود البطولي الذي أبدته طيلة هذه المواجهة العسكرية غير المتكافئة”.