يرصد الفنان والخطاط العراقي وسام شوكت في معرضه الجديد “الأشكال الخطية” Calligraformism، المناطق الفارغة في الأحرف العربية، في عملية انفتاح واثق على قلب اللغة، على بياض الأحرف من الداخل، باعتبارها مساحات حيّة، نابضة بالأشكال، أتاح لها الفنان أن تتمرّد على تاريخها المغلق، ومنحها قدرة تنافسية مع أنواع الفنون الأخرى.
منذ أربعين عاماً وشوكت يمضي في صحبة العربية وأحرفها، محاولاً فكّ ارتباطها بالديني والتقليدي، وتحريرها من المتسلطين عليها، فأخرجها من جمودها، من دون أن يأخذ موقفاً متزمتاً من النمط الكلاسيكي في التصميم.
“الخط العربي بالنسبة لي هو أكثر من مجموعة حروف ذات أشكال جميلة، وأبعد من إتقان محاكاة الأساليب التقليدية منذ قرون. الخط العربي هو التقدم والتطوّر”. بيان الفنان الخاص بمعرضه السابق “المونمنتال 11/11”.
مع الفنان وسام شوكت كان حوار “الشرق”، حول تجديده الأسلوبي في عالم الخط وأعماله ومسيرته الفنية.
كيف خطر لك الاشتغال على الفراغات داخل الأحرف بأسلوب أقرب إلى الفن من الخط؟
للحديث عن هذه التجربة لا بد من العودة إلى بدايات الفكرة، إلى عام 2011، عندما افتتحت معرضي الشخصي الأوّل في نيويورك، بعد أن تلقيت دعوة من صاحب جاليري أميركي الجنسية، شاهد أعمالي في مركز دبي المالي، وكانت عبارة عن جداريات حديثة غير تقليدية، ودعاني لإقامة معرض خاص في نيويورك.
كانت الأعمال حينها عبارة عن جداريات ضخمة مغطاة بالأحرف العربية بخط الثلث، حديثة ومن دون تجريد، لكنها أقرب إلى “التايبوجرافي” من الخط العربي، وكان من أهم المشروعات التي أنجزتها، وأحدثت ثورة لدى المصممين والخطاطين لجهة استخدام الخط العربي كفن حديث.
كنت أمزج حينها بين الكلاسيكي والحديث، وبدأت باستخدام “خط الوسام” في أعمالي، الذي ابتكرته قبل 20 سنة، لكني لم أكن أستخدمه في الخط، بل في أعمال الفن، وعام 2009 استخدمته للمرّة الأولى في الخط.
ما هو “خط الوسام” تحديداً؟
هو عبارة عن أشكال حروف جديدة، لا هو خط نسخ ولا ثلث، مشتقّ من عدة خطوط كلاسيكية، لكني طوّرت حروفه. لم يظهر هذا الخط في يوم واحد، بل عبر عملية تراكمية على مدى عشرين سنة، وما زلت حتى اليوم أدخل عليه تعديلات وأطوّره. وحالياً أنا بصدد إعداد كتاب للنشر حول قواعد هذا الخط وأسسه.
لطالما كانت لدي مساهمات باتجاه تغيير مسار الخط العربي. اشتغلت على مشروع حول خط الرقعة الجلي المركب عام 2014، بدأت أركبه وابتكرت أشكالاً جديدة من الحروف، تساعد على استخدامه كخط في التصميم، وحوّلته من خط وظيفي إلى خط فني، حاله حال خط الثلث، الذي أضفت إليه أيضاً حروفاً جديدة، وهذه من التطويرات التي توقف الاشتغال عليها منذ القرن الثامن عشر.
هل تقبّل المعترضون محاولات التغيير؟
منهم من انتقدني ومعظمهم كانوا من الأتراك، وقالوا إنه لا يحق لي الاشتغال بهذه الطريقة، وكان جوابي أنه لا قانون ولا شرطة خط تقول ذلك، أو تمنعني من تطوير الحروف. في المقابل هناك من رأى أن تفكيري بهذه الطريقة منطقي وسليم، يخدم الحروف فنياً وجمالياً، وخصوصاً أنها قائمة على القواعد نفسها، وعملية تطوّر الخط طبيعية، وأخذ مئات السنين كي يصبح الخط على ما هو عليه اليوم.
بعد مشروع المركز التجاري بدأت عام 2010 أستخدم “خط الوسام” بشكل أوسع، وتعززت ثقتي باستخدامه في اللوحات. ولأنه خط مودرن، وشكله جديد، بدأت أخرج به بحرية، فأنا من وضع قواعده ولا يمكن لأحد أن يقول لي غير ذلك، بمعنى أني تحرّرت، وهذا التحرّر ساعدني وانعكس على تعاملي مع بقية الحروف، فمسكت خط الثلث، وأدخلت عليه تراكيب جديدة، أشبه بالتايبوجرافي، وشبيهة بالجدارايات التي عرضتها في مركز دبي المالي.
كيف تطوّرت التجربة بعدها؟
عام 2010 رأى أعمالي الخطاط السوري منير الشعراني، وهو من الذين ينادون بالتجديد في الخط، واشتغل على الخطوط الكوفية وعدّل عليها وطوّرها، واشتغل أعمال غير كلاسيكية، فاقترح عليّ إقامة معرض مشترك في سوريا، وتواصل مع الخطاط السوداني المعروف تاج السر حسن، وهو مصمّم وفنان ومجدّد في الخط أيضاً، ورتبنا جميعنا معرضاً بعنوان “إبداعات خطية”، وشاركت فيه بلوحاتي التي أنجزتها بخط الوسام، وكانت تجربة ناجحة جداً، وشهد المعرض حضوراً كبيراً ونوعياً.
من هناك قرّرنا أن ننقل المعرض إلى معهد العالم العربي في باريس، والتقينا مدير عام المعهد بدر الدين العرودكي في ذلك الحين، لكنه لم يتحقق.
في العام نفسه شاركت في معرض “المشق”، وكنا عام 2009 أسسنا مركز دبي للخط العربي، وكان له تأثير على نوعية الأعمال في دبي وعلى التصميم والمشاركات وغيرها، لكنه للأسف لم يعد موجوداً. كنا أربعة أشخاص مهتمين بالخط، وأوّل معرض لنا هو “البسملة”، شارك فيه كل خطاط بأسلوبه في كتابة البسملة، وصمّمنا له “كتالوجاً” خاصاً. وبعد النجاح الذي حقّقه، قررنا أن نعدّ سنوياً معرضاً عن موضوع معيّن من الخط.
هل عدد من ينادي أو يشتغل بتجديد الخط العربي كبير؟
لا هم قلّة قليلة، ولا يتجاوز عددهم عشرة أشخاص. أنا بدوري كخطاط كلاسيكي لدي جوائز من تركيا وغيرها، لكن كان دائماً عندي اهتمام بتطوير الخط، والاستفادة منه في التصميم، وأن لا يبقى في القوالب الكلاسيكية، أي محصوراً في كتابات المساجد.
في الواقع الخط لم يكن ليصل إلينا بهذا الشكل لولا تطوّره على مدى السنين، إذن ما معنى أنه توقف في القرن الثامن عشر، وما معنى أن شخصاً لم يأتي ويعدّل عليه ويدخل عليه أي جديد؟
ما الذي منعه من التطوّر أو التجدّد؟
أغلب الناس الذين اشتغلوا في الخط وأثّروا فيه غير مثقفين فنياً، لو تكلمنا عن الأتراك الذين اشتغلوا بالخط أيام الدولة العثمانية، لم تكن لديهم ثقافة في الفن والحركات الفنية، فضلاً عن ارتباط الخط بالدين، فأضافوا عليه قدسية معينة. ومنذ عام 1912 لم نعد نرى أي إضافة على الخط.
وماذا فعل الخطاطون المعاصرون؟
بقي بعضهم حبيس القواعد وبعضهم القليل تمرّد عليه، في كل فعالية فنية، لم يكن هناك دور للخطاطين، ينظرون إلينا على أننا “صنايعية” ومقلّدين، ولسنا من فئة الفنانين.
هذا التصنيف كان يزعجني، لأن الخط فيه مجالات فنية، لكني كنت أشعر أحياناً أنهم على حق، فنحن عالقون في هذا التصنيف، وكوني أحب الفن منذ طفولتي ومنفتح عليه، وساعدني واشتغلت مع علامات تجارية عالمية، وكنت أصمّم “لوغوز” وغيره، اجتهدت كي أستخدم الحرف العربي في أمور أخرى.
هل تتابع واقع هذا الفن في السعودية اليوم؟
المملكة تمضي باتجاه تشجيع الثقافة والفنون عموماً، وأتمنى أن لا يقعوا في مسألة “الكليشيه”، بمعنى أن الخط العربي هويتنا وغير ذلك.
في دبي بدأت حركة قوية باتجاه هذا الفن وتراجعت، مثلاً معرض دبي للخط انطلق بقوّة، وشاركت في دورات عدّة منه، وصمّمت المطبوعات وغيره، لكن بعد فترة انتقل إلى جهة أخرى ثم توقف، وهذا ما أتمنى أن لا تقع فيه المملكة، مع أهمية الانفتاح على كل الخطاطين العرب وعدم حصرها بالسعوديين وحدهم.
على الرغم من محاولات تجديده هل تعتقد أن الخط العربي استطاع أن يصل إلى عموم الناس؟
الحركة انطلقت ونحن ماضون في هذا الاتجاه، وشهدنا اجتهادات عدّة في السنوات الماضية، نحو تحديث الأعمال أو الاشتغال بخطوط حديثة.
أعتقد أن مساهمتي في التطوير كان لها دور أساسي، وكأني فتحت لهم الأبواب، وهذا لا يتم بين ليلة وضحاها، أنا أعمل منذ 40 سنة في هذا المجال.
أربعة أحرف تأثّرت بها وانطلقت منها نحو الشهرة، ما قصّتها؟
كنت في عمر 10 سنوات عندما كتب أستاذي أمامي أربعة حروف منفصلة هي: أ ب ج د، ومنذ ذلك اليوم، وقعت في غرام الخط، وما جعلني أتعلّق بها، شكلها الجرافيكي، وإلا ما معنى أن أكون طفلاً وأتعلق بالأحرف إلى حدّ الهوس.
اشتهرت لوحتك “حديقة الحب” وتميّزت أعمالك بمفردات الحب واللون الأحمر إلى جانب الألوان الترابية.
من معرض “مشق” والإحساس بالتحرّر، أخذت عبارة “الحب ربيع القلوب”، وكتبتها بخط الثلث، استخدمت أكثر من حجم في الحروف، كما استخدمت كلمة “حب” باتصال حاء جديدة. ابتكرت شكل كلمة حب بخط الثلث بشكل غير مسبوق، وحينها أحدث العمل ضجّة، وفي الوقت نفسه أنجزت لوحة أخرى مؤلفة من مفردات الحب، مثل الشوق الغرام الهوى الود الشغف المحبة، كلها باللون الأحمر، صمّمتها بشكل مستطيل، وسميتها “بساط الحب”.
كذلك أنجزت لوحة ثالثة بعنوان “الحب والحرية”، هي عبارة مأخوذة عن جبران خليل جبران “المحبة هي الحرية الوحيدة في العالم”، فكتبت كلمتي محبة وحرية بطريقة مبتكرة بخط الثلث، وشاركت فيهم بالمعرض، كانت أعمال مختلفة لجهة التصميم وشكل الحروف والتكوين واللون الأحمر.
المعرض لاقى نجاحاً كبيراً، ولوحة “حديقة الحب” اقتناها السيد محمد المر، أما “بساط الحب” فاشترتها سيدة أعمال فرنسية أميركية. ومن هنا قررت أن أسمي معرض نيويورك “Letters of Love”.
صممت اللوغو وراسلت صاحب الجاليري، وقرّرت أن لا أعرض أعمالاً كلاسيكية، بل أعمالاً فيها فن، وأن أختار موضوع عالمي وليس ديني بل يهم جميع الناس. ولاقى المعرض نجاحاً وحشداً لم أتوقعه، وكتبوا عنه في مجلة مختصّة بالخط في أميركا.
تقول إن كل النجاحات جاءت بتأثير معرض نيويورك لماذا؟
كنت أحس قبل ذلك أنني حبيس سمعتي كخطاط، وأننا كخطاطين لا نفهم في الفن، ومبعدين عن كل الفعاليات الفنية، كنت دائماً أريد أن أنجز معرضي الشخصي وأقدّم فيه كل تجربتي، وهذا لم يتسنى إلا في نيويورك، لذلك فتح لي هذا المعرض أبواباً كثيرة، وحقوق الأعمال بعد عودتي اشتراها صاحب جاليري بريطاني في دبي، وباع الصور بعد طباعتها، وهذا ساهم في انتشار الأعمال عالمياً.
تتجوّل في عالم الحروف تنفضها تجدّدها وتبدل في أشكالها من أين لك هذه المخيلة؟
استطعت أن أروّض حواسي البصرية في التقاط الجمال في كل شيء. عند السفر أزور المتاحف قبل أي شيء، ولا أحب الفن المفاهيمي الذي أعتبره انحطاطاً، أحب فن ما بعد الانطباعية والتكعيبية، واستطعت أن أرى أبرز المتاحف حول العالم.
وما عزّز ثقافتي الفنية وطريقتي في تعاملي مع الحرف، هي قراءاتي حول تطوّر الفنون، حاولت أن أفهم كيف تطوّر كل شيء وأن أطبّق ذلك على الخط. علماً أنني عندما كنت خطاطاً كلاسيكياً، كنت أشعر بالذنب من المسّ بالخط، لكني اقتنعت بأن القدسية نحن من خلقها.
معرضك الجديد في “السركال أفنيو” دبي بعنوان “الأشكال الخطية” هو إعلان واضح لخروجك عن الكلاسيكية؟
بعد تجربتي الطويلة، وجدت أن لا شيء يمنع من الخروج عن الكلاسيكية، ما زلت خطاطاً، ولدي أعمالي في هذا المجال، لكن عندي تجاربي الخاصة.
بدأت الفكرة عندما كنت أرسم حروفاً بخط الثلث، ونحن مولعين به، لأنه من أصعب الخطوط، وهو مقياس لمهارة الخطاط، رحت أركز على محتوى الخط، كتبت الحاء بالثلث ثم أقفلت الفراغات فيها، وبدأت أراها كرسمات خرجت عن كونها حروفاً.
ثم أخذت الحروف وبدأت أنسج علاقات بينها، كيف يتماهون وكيف يجلسون إلى جانب بعضهم، كأني أخدت الكلمات وفصلت حروفها وجرّدتها، ثم أعدت تركيبها بطريقة غير تقليدية في الخط. بل كأني أطلقت أبجدية جديدة وربطتها ببعضها بطريقة مختلفة.
ما يميّز هذا المعرض هو طريقة تفكيري في الحروف “إنسايد أوتسايد”، من الداخل إلى الخارج، فعندما نقضي 20 سنة نتمرّن بالخط الكلاسيكي، يمكنك أن تعرف بعد إتقان أن هذا الخط صحيح وهذا خطأ.
ما نفعله في الحقيقة أننا نكتب البياض الداخلي في الحرف، والسواد في الوقت نفسه، عيننا ترى السلبي والإيجابي في الحرف، الفراغات وأشكال الحروف كاملة.
ما الذي يجذب العين أكثر الفراغ أم شكل الحرف؟
الاثنان معاً، الحرف هو عبارة عن التقاء فراغ مع كتلة الحرف، الفراغ الداخلي في حرف الصاد لا يكون جميلاً لولا الفراغ الداخلي، وهذا ما يجعلنا حكام في موضوع الخط. هذا المعرض قدّمت فيه أسلوباً جديداً غير مطروق وتحدّيت فيه نفسي، وهذا يسهم في نجاح التجربة.
تحوّلت من خطاط إلى فنان تحركه مفاهيم تجريدية، وبعد أكثر من 30 عاماً من ممارسة فن الخط، شعرت أني مؤهل لتحديد المبادىء التي يمكن تجاوزها والتحرّر منها، أو التي يجب أن أبقى محافظاً عليها.