“نحن في عام 2030. تجري روسيا والصين أول مناورات عسكرية كبرى في القطب الشمالي. وتشمل المناورات المشتركة، التي أطلق عليها اسم فوستوك 2030، آلاف الجنود والدبابات والطائرات ومعظم الأساطيل الروسية والصينية الشمالية. إنها أحدث مظاهر “الشراكة التاريخية” بين موسكو وبكين.
كانت هذه واحدة من السيناريوهات القاتمة التي رسمها الجنرال اللورد ديفيد ريتشاردز، رئيس القوات المسلحة البريطانية السابق، وجوليان ليندلي فرينش، أستاذ في أكاديمية الدفاع الهولندية، في كتابهما الجديد “التراجع عن الاستراتيجية”، عن التهديدات الأمنية التي تواجه أوروبا، وكيف يمكن أن تتكشف إذا لم يتم التصدي لها.
وتشير “فاينانشيال تايمز”، إلى أن هذه الرؤية المرعبة ليست نبوءة. ولكنها ليست أيضاً بعيدة عن الواقع.
ويتوقع الجنرال رتشاردز أن روسيا والصين ستزيدان بشكل مطرد من وجودهما العسكري والاقتصادي في القطب الشمالي، حيث سيسمح “وقف إطلاق النار” في الحرب الروسية الأوكرانية لموسكو بإعادة تشكيل جيشها.
وأضاف في توقعاته أن بكين لن تخشى شمال الأطلسي (الناتو)، وستعتبره “نمراً من ورق”، مشيراً إلى أن روسيا، ستعلن فجأة، أنها وسعت سيطرتها على الجرف القاري في القطب الشمالي.
كما ستعلن روسيا بدورها أن “المطالبة التاريخية” للصين ببحر الصين الجنوبي مشروعة أيضاً. وبعد فترة وجيزة، تغزو القوات الصينية الروسية أرخبيل سفالبارد النرويجي، وهو مجموعة استراتيجية من الجزر التي تسيطر على الوصول إلى الشمال المرتفع.
بعد ذلك، يحشد حلف شمال الأطلسي قواته، ولكنه يفتقر إلى قوة الجيش الأميركي وقوته اللوجستية لاستعادته. والآن يواجه حلفاء أوروبا في حلف شمال الأطلسي معضلة استراتيجية رهيبة، التخلي عن السيطرة على سفالبارد أو استدعاء القوة الكاملة لمعاهدة الدفاع المتبادل وشن ضربة نووية انتقامية.
وفي لندن وباريس، يواجه رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الفرنسي، اللذان يسيطران على ترسانتي أوروبا النوويتين المنفصلتين، قراراً مروعاً.
تحذيرات استخباراتية
وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدتها روسيا حتى الآن في أوكرانيا، (ما يصل إلى 700 ألف قتيل وجريح)، وفقاً للمخابرات العسكرية البريطانية، حذر الجنرال كريستوفر كافولي، القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي، الشهر الماضي، من أن الجيش الروسي سوف يخرج من الحرب “أقوى مما هو عليه اليوم”.
وعلاوة على ذلك، قال إن القوات المسلحة الروسية “ستكون على حدود تحالفنا… بقيادة نفس الأشخاص الذين يروننا بالفعل أعداء”.
وأضاف: “سوف يكون لدينا خصم يتمتع بمهارات حقيقية، وكتلة من القوات ونوايا واضحة”.
وعلى مدى 75 عاماً، لعبت الولايات المتحدة دوراً كبيراً في حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، أثارت عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض شبح حرب في أوروبا حيث قد لا يتمكن حلفاء حلف شمال الأطلسي من الاعتماد على الدعم الأميركي الكامل، أو ربما أي دعم أميركي على الإطلاق.
وحتى قبل الانتخابات، كانت القضية المركزية، كما قال وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس في أكتوبر، هي ما إذا كانت “الولايات المتحدة قد التزمت فعلاً بأمن أوروبا”.
ويعترف مسؤول أمني أوروبي كبير قائلاً: “بطريقة أو بأخرى، سوف يضطر الأوروبيون إلى تحمل المزيد من العبء الدفاعي”، مضيفاً: “السؤال هو ما إذا كانت هذه العملية ستكون منظمة أم فوضوية”.
تحديات التمويل والتسليح
وعلى الورق، لم يكن التحالف العسكري مستعداً أبداً بشكل أفضل. منذ الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في فبراير 2022، نشر الحلفاء المزيد من القوات في أوروبا الشرقية، واتفقوا على خطط عسكرية مفصلة للغاية، ووقعوا على ما يسمى “نموذج جديدة للقوة” لحلف شمال الأطلسي، الذي ينص على نشر أكثر من 100 ألف جندي؟في أقل من 10 أيام. ومع ذلك، يظل السؤال: هل يمكن لأوروبا الدفاع عن نفسها دون القدرات العسكرية والقيادة الأميركية؟
يقول مسؤول أوروبي كبير آخر: “هناك المزيد من القلق الآن في دول البلطيق وبولندا بشأن أمنهم، وأعتقد أن الجميع يفهمون ذلك. لقد حان الوقت الآن لقادة حلف شمال الأطلسي الأوروبي للجلوس وإدراك ما يجب عليهم فعله. هل سيكون ذلك صعباً؟ “نعم، سيكون الأمر صعباً للغاية”.
وقال جون هيلي، وزير الدفاع البريطاني، إن الجيش البريطاني، الذي يعد تقليدياً ثاني أهم لاعب في حلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتحدة، أصبح “مفرغاً”.
كما أن المخزونات العسكرية في فرنسا، التي تمتلك ثاني أهم قوات مسلحة في حلف شمال الأطلسي الأوروبي، ضئيلة. أما بالنسبة لألمانيا، التي ربما تكون أكبر دولة منفقة في القارة، فقد تعطلت عملية تحديث جيشها بسبب نقص الأموال بسبب حدود الإنفاق الدستورية في ألمانيا.
وحذر معهد الدراسات الاستراتيجية الدولي في تقرير حديث له من أن “الوفاء بالتزامات حلف شمال الأطلسي سيتطلب من أعضاء حلف شمال الأطلسي الأوروبيين زيادة مستويات استعدادهم بشكل كبير، وإغلاق مناطق القدرات الحرجة، وتعزيز قواعدهم الصناعية الدفاعية، وإجراء استثمارات مالية طويلة الأجل في القوات والابتكار الدفاعي”. وأضاف أن “معالجة هذه النواقص بسرعة أمر ضروري”.
ويشير المارشال الجوي البريطاني السابق، إدوارد سترينجر، الذي كتب عن حلف شمال الأطلسي المحتمل بعد الولايات المتحدة، إن اللوجستيات تعد جزءاً أساسياً من تحديات الدفاع الأوروبي، مضيفاً أن أمور مثل مخزونات الذخيرة والنقل والخدمات اللوجستية هي مهمة حقاً في أي حرب.
لكن بعض ما تقدمه الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي، مثل أسطولها من طائرات الشحن C17، والتي تكلف 340 مليون دولار للطائرة الواحدة ويمكنها حمل 75 طناً من المعدات لمسافة تقارب 4 آلاف و500 كيلومتر دون إعادة التزود بالوقود- لا يمكن تعويضه تقريباً.
كما تبرز طائرات F-35 الأميركية الصنع بشكل متزايد في قلب القوة الجوية القتالية لحلف شمال الأطلسي، حيث من المتوقع أن تعمل أكثر من 500 طائرة مقاتلة في أوروبا بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، وفقاً لتقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
“لا يتعلق الأمر بالمال”، كما يقول أحد الدبلوماسيين من الاتحاد الأوروبي الحاضرين خلال المناقشات بين زعماء الاتحاد الأوروبي بشأن كيفية الاستجابة لولاية ترمب الثانية. ويضيف الدبلوماسي: “المال يمكننا العثور عليه. ما لا يمكننا العثور عليه هو الأسلحة التي يمتلكها الأميركيون. هذه قضية عملية”.
الافتقار إلى القيادة
إضافة إلى ذلك، يواجه الاتحاد الأوروبي تحدياً في صناعة الدفاع المجزأة. فوفقاً لشركة ماكينزي، تمتلك الولايات المتحدة 32 نوعاً من الأنظمة، في حين تحتفظ أوروبا بـ172 نوعاً، عبر 11 فئة رئيسية من أنظمة الأسلحة الرئيسية، مثل الطائرات المقاتلة والدبابات والمدمرات.
ويؤدي هذا التجزؤ في زيادة التكاليف، ويحد من التشغيل البيني ويخلق مشاكل لوجستية، حتى مع أسلحة بسيطة مثل الذخيرة التي يُفترض أنها قياسية في جميع أنحاء حلف شمال الأطلسي.
كان على القوات المسلحة الأوكرانية التعامل مع أكثر من 12 نوعاً مختلفاً من قذائف المدفعية عيار 155 ملم، على سبيل المثال، وغالباً ما تضطر إلى ضبط بنادقها لكل إصدار.
ويقول بيير روبرتو فولجييرو، الرئيس التنفيذي لشركة الدفاع الإيطالية وبناء السفن فينكانتيري: “يتعين علينا تفكيك صناعة الدفاع الأوروبية ودمج بعضها مع بعض”.
ونقلت “فاينانشيال تايمز”، أن هناك قضية أخرى تحتاج أوروبا إلى معالجتها إذا تخلت واشنطن عن حلف شمال الأطلسي وهي الافتقار إلى القيادة الأميركية، وهذا واضح بشكل خاص في شخصية القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي، وهو أميركي دائماً. ولكن هذا ينطبق أيضاً على التخطيط العملياتي الذي توفره الولايات المتحدة.
ويقول سترينجر: “تستخف الولايات المتحدة بهذا الأمر، وكذلك تفعل أوروبا لأنه محرج إلى حد ما. ولكن إذا أزلنا هذه القيادة الأميركية، فقد يؤدي إلى ذلك إلى صراع بين فرنسا وبولندا مثلاً، هل يمكنك أن تتخيل ماكرون يذعن لرئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، أو العكس؟ وقال إن القيادة العسكرية الأميركية المهيمنة هي التي تجر الجميع إلى الأمام”.