سواء من خلال قصائده المنشورة في أكثر من منبر عربي، أو من خلال قراءاته في التظاهرات الشعرية داخل وخارج الجزائر، أو من خلال الجوائز التي حصل عليها، كانت آخرها قبل أيام جائزة “أحرار نوفمبر” الجزائرية، استطاع الشاعر هارون عمري (1999)، أن يلفت الانتباه إليه لجهة جماليات كتابته، ونبرته الشعرية الحماسية، والوصول إلى جمهور واسع.
هنا محاولة اقتراب من عالم الشاعر الشاب وبعض هواجسه في الكتابة والحياة على هامش حفل الجائزة.
استجبت لإغراءات الشعر في ظل طغيان أجناس أدبية أخرى منسجمة مع شغف الجيل الجديد في مقدمّها الرواية، ما السبب؟
الرواية هي فضاء سردي ديمقراطي، أي أنه يقوم على تعدّد الأصوات، ولا يمكن انحياز الذات الكاتبة فيه إلى عوالمها الخاصة إلا من خلال تسريب نتف من سيرتها، وإلا وقع النصّ الروائي في الميوعة، على عكس الشعر تماماً، إذ يقوم على صوت الذات، فإذا تسربت إليه أصوات الجماعة، وقع في الميوعة.
أنا آتٍ من بيئة في بُعديها الأسري والمجتمعي، لا تمنح لتعدد الأصوات كثيراً من الفرص، فانحيازي للشعر هو في عمقه انسجام مع طببعة تلك البيئة من جهة، وانسجام من جهة أخرى مع ذاتي التي كانت وما تزال ترغب في الإعلان عن نفسها والتعبير عما يشغلها من أسئلة وهواجس.
تسمح الرواية بقراءة المجتمع وتفكيكه، ولم يكن هذا يعنيني، بينما يسمح الشعر بقراءة الذات وتفكيكها، وهذا ما أنا بحاجة إليه. لا أذكر أني تحدثت كثيراً في المجالس الجماعية، فأنا أكتفي بالإنصات، لكني تحدثت وما أزال مع نفسي، حتى الآخرون أستحضرهم في أحاديثي مع نفسي، ولا أرى أن هناك مكان لاستنبات الشعر أفضل من هذا المقام.
هل انحزت إلى المعمار الكلاسيكي في القصيدة (البحور الخليلية)، سعياً لاكتساب جمهور عربي ما تزال ذائقته الشعرية تراثية؟
لم يكن خياراً في البداية، فالشعر العمودي كان مهيمناً على الذائقة في محيطي الصغير. البيت. الجامع. المجالس. الأعراس. المساجلات الشعرية. رسائل العشق التي تُرسل إلى الفتيات، لاحقاً أصبح خياراً مقصوداً بعد أن أصبحت الكتابة لدي تخضع للوعي.
أبقيت على الشكل الكلاسيكي من باب تحدي من يكتبون في محيطي، إذ كان وما يزال الاعتراف بالأصوات الجديدة شحيحاً، ومن جهة أخرى حتى أغذّيه برؤى وصور وموضوعات مختلفة، فأسهم في تخليصه من غرقه في القديم.
أنت من جيل يكاد لا يعرف تواصلاً خارج التكنولوجيات الحديثة، ألا ترى أن استدعاء نموذج جمالي من سياق قديم يعدّ انفصاماً؟
لا شك في كون الحداثة منظومة متكاملة على مستوى المعيش، لكن لا ينبغي أن نفهمها حركة عدائية لكل ما هو موروث، فالحداثة الحقيقية لا تقوم على القطيعة الحادة مع الماضي، بل هي تلك التي تستمدّ مصداقيتها من استدعاء ما كان حداثياً في السابق، بما في ذلك العصر الجاهلي، إذا حصرناها في الشعر، فتقيم معه علاقة تواصل، ومعه تتغلغل إلى ما هو حداثي في الحاضر.
ثم إني في يومياتي قد أدخل فضاءً حداثياً، مرتدياً هنداماً تراثياً، فلا أجد حرجاً في ذلك، أو رفضاً له، فتتجلى الحداثة في هذه الحالة في أن أتناول أطباق ذلك الفضاء الحداثي، وفق الأصول المعمول بها، وأرتدي ذلك الهندام التراثي وفق الأصول التي يتم ارتداؤه بها.
من هم آباؤك الشعريون وما الذي توفّر في تجاربهم من عبقريات حتى استطاعوا أن يقنعوا شاعراً شاباً؟
هم من كتبوا الشعر وفق جماليات الكتابة، بغض النظر عن أزمنتهم وأمكنتهم. فأنا معجب كثيراً، مثلاً، بحركة الصعاليك في الزمن الجاهلي، لأنهم كتبوا انطلاقاً من رغبتهم في الانعتاق، وضحّوا بمكاسبهم الاجتماعية، من أجل قناعاتهم الفلسفية والأخلاقية، ولا شك في أنهم لو ظهروا في زمننا الحديث، لما وجدوا صعوبة في التأقلم مع أبجدياته، وكانوا انخرطوا في كل مساعي التحديث، وفي منظمات حقوق الإنسان.
ماذا عن رؤيتك للشعريات الغربية الحديثة؟
فيها شعراء معينون هم مصدر إلهام إبداعي ومصدر غذاء جمالي؛ مثل فرناندو بيسوا. بورخيس. انوطونيو بورشيا. دونالد هول. هؤلاء عاشوا معاناة منسجمة مع طبيعة بيئاتهم، فتحدّوها وطلعوا منها بنصوص كانت وفية لأسئلة الإنسان والوجود، مثلما عشت أنا معاناة منسجمة مع طبيعة بيئتي، وطلعت منها بقصائد حاولت فبها أن أكون وفياً للسؤال الإنساني.
إن روح الشعر واحدة في كل الحضارات والمجتمعات والثقافات واللغات والأزمنة، والمجد للترجمة الجيدة التي تحقّق لنا هذا التقارب.
ما مبرر استمرار ثيمات وهواجس في نصوص حديثة زمنياً، الهجران ونأي الحبيبة نموذجاً، في ظل اقتحام المرأة العربية للفضاء العام؟
أرى أن قطاعاً واسعاً من الشعراء العرب، اليوم، يكتبون انطلاقاً من مخيال قومي مشترك، لا انطلاقاً من معيش منظور، فتقع هوّة بين ما يعيشونه وما يحفظونه. من ذلك ما أشرتَ إليه في السؤال.
إن الشكوى من الهجران إحدى أبجديات المخيال العربي الذي ورثها عن واقع مجتمعي سابق، حيث كان حضور المرأة وظهورها طفيفاً وقائماً على المنع والفضيحة.
هل لاحظتَ في هذا السياق أن معظم الأغاني العربية تتغنى بالهجران أكثر مما تتغنى بالوصال، بل إنها تخاطب الحبيبة بالضمير المخاطب المذكر؟ إنه الخضوع للموروث عوضاً عن الخضوع للواقع المعيش، ومن هنا أقول إن الأولوية في تحديث النص الشعري العربي لا تتعلق بالمعمار (شعر عمودي/ شعر حر)، بل يجب أن تتعلق بالمفاهيم، وإلا ما جدوى أن تكتب شعراً حراً بقناعات تجاوزها الزمن وقطاع واسع من مجتمعك؟
هل تكتفي القصيدة بذاتها لتستوي جمالياً، أم تقتضي لذلك الاتكاء على فنون ومعارف أخرى؟
إن القصيدة دفقة عاطفية وأخرى فلسفية. وإذا كنا قادرين في الدفقة الأولى على الاكتفاء بما تمليه الذات، فإننا ملزمون في الدفقة الفلسفية بأن نستعين بما توصّلت إليه الإنسانية من معارف وجماليات في مختلف الحقول، وإلا طلعت نصوصنا فقيرة ورومانسية.
ما الذي يمكن للجوائز أن تضيفه للشاعر، وما هو احتمال أن تجرّده من صدقه ومصداقيته؟
ليست الجوائز والمسابقات طارئة في الثقافة العربية، بل هي ثقافة ممتدة في تراثنا العربي. سوق عكاظ نموذجاً، ولطالما لعبت دوراً حاسماً في تكريس الأسماء وإضاءة التجارب وجذب جمهور واسع للشعر والشعراء، واستطاعت بعض الجوائز العربية الحديثة أن تلعب هذه الأدوار.
عيب الجوائز إذن ليس في ذاتها، بل في ظروف وخلفيات تنظيمها، وعيب الشاعر الشغوف بالجوائز ليس المشاركة فيها، بل في التفرّغ لها والكتابة من أجلها، بما سبحرمه من بناء تجربة شعرية مرتبطة بأسئلته وهواجسه وتجاربه الخاصة.