عرف العراقيون عدداً من الأناشيد تكاد تساوي عدد الحكومات التي عاصروها، وارتبط كل نشيد لديهم بذكريات حربٍ مريرة.
ويمكن استعارة مقولة الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، عن العالم القديم الذي يحتضر، والجديد الذي لم يولد بعد، لوصف حالة النشيد العراقي، المحمّل بكلمات توحي بالحرب، وتستعيد تاريخاً طويلاً من النزاعات، وهو التاريخ الذي يريد الجيل الجديد تجاوزه.
عام 2012، صنّفت صحيفة “التلغراف” البريطانية النشيد العراقي، ضمن قائمة “الأناشيد الأسوأ استماعاً”، وذلك من بين 205 دول، شاركت في دورة الألعاب الأولمبية في لندن. ورأت الصحيفة أن النشيد “فيه خيلاء وتعالٍ، ويُصدّر رسالة خطيرة”.
النشيد الوطني الحالي، كتبه الشاعر الفلسطيني المعروف إبراهيم طوقان، ولحّنه الموسيقار اللبناني محمد فليفل، وجرى اعتماده بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
لم تكن رؤية الصحيفة البريطانية، بعيدة عن رؤى عراقية تعود لشعراء وفنانين، وآخرين من اتحاد الأدباء العراقي نفسه، الذي طرح نشيداً مغايراً للنشيد الحالي.
عام 2019، اقترح الاتحاد جزءاً من قصيدة “المقصورة” للجواهري، وهو الجزء الذي يبدأ بـ “سلام على هضبات العراق ِ وشطّيه ِ والجُرف ِ المنحنى، سلامٌ على باسقاتِ النخيل وشُمِّ الجبال ِ تشيعُ السَـنا”.
جاء ذلك بعد أن رأى نواب في التيار الصدري، نشيد “سلام عليك”، الذي لحّنهُ الفنان كاظم الساهر، من كلمات الشاعر كريم العراقي، الاقتراح الأفضل كنشيدٍ وطني.
وإذ نجري مقارنة بين كلمات الأناشيد الوطنية الثلاثة، من ناحية شعرية فحسب، فإن لغة الجواهري هي الأكثر قوّة وفصاحة وجزالة.
نشيد للحرب لا للحياة
لكن ذلك ليس كافياً إذا كنا إزاء نشيدٍ وطني يردّده الأطفال منذ أوّل يوم دراسي، و يردّده الجنود ولاعبو كرة القدم، ما يعني أننا أمام نشيدٍ يرسّخ مفاهيم وطنية جامعة للشعب العراقي كله.
يمتلئ النشيد الوطني الحالي بقيم تبدو أقرب للموت منها للحياة، من قبيل “الشباب همّه أن يستقل أو يبيد”.. وهو المقطع الذي تصبح فيه الحياة أقلّ مرونة، أو المقطع الذي يضع الحسام بموازاة اليراع، وهي رؤية شائعة في المدوّنة العربية القديمة.
وحتى الجزء الذي يحاور فيه الشاعر وطنه قائلاً: “هل أراك سالماً منعّماً”، يحضر فيه الاستفهام بطريقة، توحي أن اليأس في داخل ذهنية الشاعر، وهو اليأس الذي سيتسرّب إلى الروح العراقية التي تتمثّله.
أما نشيد الساهر، فلن يبتعد كثيراً عن طوقان، حيث يسيطر الحزن على المشهد مرّة أخرى: “لماذا أراك حبيبي حزين، ويعصر وجهك هذا الألم”.. فضلاً عن المقطع الذي يغفل فيه الشاعر التنوّع الديني العراقي، مكتفياً بالتعريج على رمزية دينية وحيدة فحسب، وهو ما وجد فيه عدد كبير من المثقفين انقساماً طائفياً.
التنوّع العراقي
في هذا السياق يرى الشاعر والصحفي إيهاب شغيدل، “أن مقارنةَ النصوص الوطنية إزاء بعضها من أجل اختيار نشيد وطني أمر مربك”، مؤكداً أن “النشيد الوطني، ينبغي أن يراعي التنوّع العراقي، وأن يحمل سمات البلاد وطبائعها، مراعياً السلوك الجماعي للمواطنين”.
سيطر لفترات طويلة على ذاكرة الأجيال العراقية، ارتباط النشيد الوطني بقوّة اللغة والحماسة وإشعال الجماهير، بصرف النظر عن المفاهيم التي يحملها ذلك النشيد، والتي قد تبثّ في داخلهم روح العنف والصرامة، بدلاً من روح الوحدة و التسامح.
وأشار شغيدل في هذا السياق، “إلى أن الاتكاء على قوّة النصّ الشعري وحدها، ليس معياراً لجودة النشيد، بل يجب أن يعبّر عن العراقيين، شاملاً الانتماءات القومية والعرقية والدينية كافة. وهو الأمر الذي يبدو معقّداً”.
ويدافع الشاعر عمر السراي عن قصيدة الجواهري، ويدعو لاختيارها نشيداً وطنياً، معتبراً أن الجواهري “قيمة جامعة لدى كل الشعب العراقي، فهو شاعر العراق والعرب، فضلاً عن الدلالات المهمّة التي تتوفّر عليها القصيدة، وفنيتها العالية”.
أوّل نشيد عراقي.. بريطاني
ظهر أوّل نشيد عراقي قبل مئة عام، عندما جرت مسابقة أعلنها الملك فيصل الأوّل عام 1924، لاختيار نشيد وطني، وفاز لحن للضابط البريطاني الميجر جي. كان نشيد عبارة عن قطعة موسيقية على إيقاع “مارش”، ولم يتضمّن أي كلمات.
وعلى النحو نفسه، ومن ودون كلمات أيضاً، جاء النشيد العراقي الثاني عام 1958، مع أوّل جمهورية عراقية، واختارت حكومة عبد الكريم قاسم، بعد نجاح انقلابها، لحناً من تأليف الموسيقي العراقي لويس زنبقة.
نشيد صلاح جاهين
لم يدم لحن زنبقة طويلاً، فمع انقلاب القوميين عام 1963 على عبد الكريم قاسم، ووصول حزب البعث إلى السلطة، ظهر نشيدٌ ثالث، وهذه المرّة بكلمات الشاعر المصري صلاح جاهين، وألحان الموسيقار المصري كمال الطويل، واعتمد الرئيس عبد السلام عارف هذا النشيد، وفقاً لما عُرفَ حينها بـ “الوحدة العربية”، واستمر حتى عام 1979.
مع تسلّم صدام حسين الحكم عام 1979، تمّ تغيير النشيد الوطني العراقي للمرّة الرابعة عام 1981، وصدر مرسوم جمهوري من قِبل صدام حسين نفسه، لاعتماد نشيد “أرض الفُراتين”، نشيداً وطنياً، وهو نصّ كتبه الشاعر العراقي شفيق الكمالي، ولحّنه اللبناني وليد غلمية، وكان هو النشيد الرابع للجمهورية العراقية، واستمرّ منذ عام 1981 وحتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
المعايير وطنية أم عسكرية؟
ومن خلال تتبع رحلة النشيد الوطني العراقي، نكتشف أثر الحروب والانقلابات والصراعات على ذهنية مؤلفي النشيد، إذ إن المعايير الوطنية لم تكن تختلف عن المعايير العسكرية، مما يشير إلى أن النشيد، كان أكثر ارتباطاً بالجيوش منه بأي فئة أخرى من فئات الشعب.
النشيد العراقي القادم.. مهمّة شاقّة
ليس العراق بعيداً عن التغيّرات العالمية الكبرى على مستوى الأفكار والمفاهيم و التطلعات، إذ لم يعد النظر للعراق كقائدٍ للجيوش وحارس للعالم مقنعاً سوى لعدد قليل من صانعي النزاعات و المستفيدين منها.
فالجيل الجديد يبحثُ عن فرصة أملٍ و عملٍ، وعن سلام واستقرار ورخاء اقتصادي، وتحقيق قيم العدالة و النزاهة، وتلك هي المفاهيم التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند تأليف نشيدٍ وطني.
و في ظروفٍ مثل تلك التي يعيشها العراقيون، يبدو اختيار نشيد وطني معبّر عن الطموح العراقي الوطني، لا عن التاريخ الموغل في القدم فقط، و هذا ما يراه الشاعر والقاصّ طه الزرباطي قائلاً : “كيف لنا أن نختار نشيداً وطنياً الآن؟ فالنشيد الوطني يتطلّب روحاً وطنية حقيقية، ونحن تتقاسمنا الطائفية والمناطقية والعشائرية، إذاً كيف نتفق على نشيد وطني بالإجماع؟”
العراق اليوم يعاني من مشكلات عالقة، يغدو معها اختيار نشيد وطني أمراً مستعجلاً، إذ إن القيم الوطنية لم تترسّخ بعد بالكامل، والمخاوف لم تختف حتى وإن أخذنا بالحسبان، أن خيوط أمل رفيعة تكاد تتجمع داخل الروح العراقية اليوم، وخصوصاً مع تجاوز العراقيين النسبي للمحنة الطائفية”.
يضيف: “لا أقترح نشيداً وطنياً حتى نعيش الوطنيةَ حقاً، ونعيد كلّ شركاء الوطن الذين غادروه لأوطان بديلة، نشيد يتألف على مقاس حقيقي وليس على مقاسات خاصة”.