أتاح له مهجره البعيد، وعمله الأكاديمي أستاذاً للدراسات العربية في جامعة “يورك” في كندا، أن يقرأ الثقافة العربية من الخارج، وأن يرى عن كثب وعي الآخر، وكيف يقرأنا ويرانا.
في الآونة الأخيرة، انشغل الدكتور وليد الخشاب بما يجري في لبنان وفلسطين، وهو في هذا الحوار، يقدّم لنا تحليلاً ثقافياً مغايراً للصراع.
قدّمت محاضرة بعنوان “التفكير المحرّم: النطق بفلسطين”، فماذا تعني بـ”المحرّم”؟
يتّخذ “المحرّم” طابعاً مقدّساً بحسب اختلاف الجهات، فمثلاً في العالم الإسلامي، ثمّة بعض المحاذير تتعلق بفلسطين، وفي الغرب ثمّة من يمنع التفكير أحياناً.
المنطق السائد ينظر للمسألة بداية من “المحرقة”، ويعتبر إنشاء دولة لإسرائيل أمراً بديهياً، بغض النظر عن أي حقوق للفلسطينيين. ولو حدث اعتراض فهذا يعني أننا ـ كعرب ـ متعصبين قومياً أو دينياً، أو يُنظر إلينا كبشر”درجة ثانية”، وهو ما نرفضه بطبيعة الحال.
على الجانبين يتم النظر إلى فلسطين/ إسرائيل، كفكرتين مقدّستين، وليس مجرد قضية سياسية. لذلك ثمّة تقييد لتداول الكلام حتى في “السوشال ميديا”، أو حسب ميشيل فوكو، تقوم السلطة بتنظيم الخطاب إلى ما يُقال وما لا يُقال.
ألا يتعارض ذلك مع تصوّرنا عن “حرية التعبير” في الغرب؟
هذه نظرة متوهّمة لدينا عن الغرب، باعتباره مدافعاً عن العدالة وحقوق الإنسان، على الرغم من أن هناك أقليات كثيرة تُضطهد، حتى المرأة البيضاء قد لا تتمتع بحقوق الرجل الأبيض نفسها من الطبقة المتوسطة، ناهيك عمّن ليسوا من البيض أو من الطبقة العاملة.
صحيح ثمّة خطاب أخلاقي للحداثة الغربية، لكن التطبيق يظل انتقائياً. كما أن الغرب يتوهّم أنه ينتج “ثقافة واحدة” صالحة للعالم كله، وهذا غير صحيح ونابع من تصوّرات دينية معينة، لذلك لو خرجت على تصوّراته يعتبرك تمرّدت على الإجماع العالمي.
هذا الغرب المهيمن الذي يمتلك القوّة، والقائم نظرياً على منظومة القيم العالمية، هو من ربط بين مصير الأشكيناز وما تعرضوا له في الأربعينيات، ومصير الفلسطينيين. وهذا نابع من تصوّر عقائدي للمحرقة، وليس مجرد تصوّر سياسي، حتى كلمة “هولوكوست” نفسها، مستوحاة من التراث الإغريقي الديني وتعني “التضحية بقربان عبر حرقه”.
وبالتالي فإن أي دفاع عن حقوق الفلسطينيين، كأنه انتقاد لمحرّم له سلطة رمزية كبيرة في الغرب “العلماني”. وباتت التكنولوجيا توظّف في قراءة الأفكار، وانتقلنا من منع الكلام إلى منع التفكير نفسه، فجسد الإنسان وحياته وأفكاره، باتت بمثابة سلعة خاضعة للتداول والمراقبة. وعندما تهدد مثلاً بإعادة مهاجر إلى بلده الأم، يشبه إرجاع “سلعة” غير مرغوبة.
ما المغزى هنا من رد “الهولوكوست” إلى المفهوم الإغريقي الديني؟
أحد أهدافي تنبيه القارئ العربي، إلى أن المصطلح الخاص بالمحرقة، هو نفسه قديم للإشارة إلى الأضحية في ثقافات إغريقية وعبرية قديمة، أي القربان المقدّس الذي يتقرّب به الشعب إلى الإله.
كي نفهم أن أبناء الغرب -على اختلاف دياناتهم أو علمانياتهم- يعتقدون اعتقاداً قوياً، أن دولة الاحتلال لها حق مقدّس أن تفعل ما تشاء، لأنها وليدة عملية طقسية مقدّسة، هي حرق الأشكيناز كما كانت الشعوب القديمة تحرق قرابينها.
إن الجدل مع الغرب بخصوص الحق الفلسطيني، لا يجدي إن تمّت إدارته بمنطق العقل وحده، ولا بمنطق القانون الدولي. إنه جدل مع طرف -هو الغرب- ممتلئ بعقيدة إيمانية، وخطورتها أنها غير واضحة لهم كعقيدة.
الموضوع ليس عقدة ذنب يشعر بها الغرب، وليس فقط حجّة لتبرير إنشاء دولة كنقطة حراسة للاستعمار في العالم العربي. الموضوع صراع بين صاحب حقّ وصاحب عقيدة لا تأبه بأي حق.
هل يعني النظر إلى الصراع كموضوع مقدّس أنه لا يوجد أفق لحل سياسي ممكن؟
أثبتت الهجمات على الأراضي الفلسطينية ولبنان وسوريا، أن الدولة الإسرائيلية في صيغتها الحالية، لا تعترف إلا بمنطق القوّة، فلا مناشدات ولا إدانات ولا مؤسسات القانون الدولي والمحاكم الدولية تهزّها.
في ظل الظرف التاريخي الراهن، لا أرى أفقاً لحل سياسي عادل. يمكن أن تصل الأمور إلى حل سياسي غير عادل، أما الحل العادل – مثلما تعلمنا من تاريخ الاستعمار الطويل- فلا يتحقّق إلا بالضغط المادي.
قوّة الصورة
اللافت للنظر قوة “السوشيال ميديا” والصورة ومقاطع الفيديو ، كيف تقرأ تلك الظاهرة؟
منذ بدأت حرب إسرائيل على غزة، تعاظمت أهمية الفيديوهات القصيرة، أو “الريل” التي يبثّها مستخدمون متعاطفون، وكثيراً ما تعيد قنوات الأخبار إذاعتها. هذه “الريلات الأونلاين” تشكّل مصدراً أساسياً لتوثيق مسار القتال، على صعيد صراع المعلومات والحرب المعنوية.
ساهم ذلك “الحراك الرقمي”، في الجدل حول مشروعية قتال المحتل ومآلاته، ومنحت المراقبين والمؤرّخين، مصادر مغايرة للوثائق التقليدية المكتوبة أو المصوّرة بعناية مؤسسات رسمية، لتوثق التاريخ “على الهواء مباشرة”، بعيداً عن المواد الاحترافية لوكالات الأنباء والقنوات الإخبارية.
ثم تحوّلت الحرب إلى ساحة صراع بين اللغات: تتصادم فيها تصوّرات متناقضة عن اللغة البصرية، وتظهر فيها اختلافات بين اللغات اللفظية. وصارت اللغة العربية عاملاً من عوامل “المقاومة الثقافية”، في مقابل العبرية واللغات الأوروبية التي تُستخدم لمصاحبة الدعاية التي تبثها قوى الاحتلال وداعموها الغربيون.
ولا تلتزم “الريلات” بالضرورة بصياغة المادة التسجيلية بشكل محكم، وإنما صارت تلك المواد ومضات آنية وتوثيقية تخاطب الحواس والذاكرة العاطفية أولاً. وثمّة ملاحظة للمخرج والمنظّر السينمائي الراحل جان لوك جودار عام 2007، حين قال ما معناه: للفلسطينيين الفيلم الوثائقي وللإسرائيليين الملحمة.
الدعاية الإسرائيلية:ملاحم بإمكانيات مالية وتقنية عالية
تلك الملاحظة الساخرة والناقدة، تفضح الدعاية الإسرائيلية التي تصنع ملاحم بإمكانيات مالية وتقنية عالية. لو طبّقناها على الأفلام الروائية والتسجيلية التي تمجّد قوّة الاحتلال وإنسانيته، لتبدّى لنا عمق سخرية جودار. بينما الشكل التسجيلي أو “الريل”، يناسب الصوت الفلسطيني وإمكاناته.
الملاحظة الثانية نابعة من تأملات الفيلسوف الألماني والتر بنيامين حول التاريخ، إذ يقول: “إن تفصيل الماضي بوصفه تاريخاً، لا يعني أن نتعرّف عليه كما كان بحق، وإنما يعني القبض على ذكرى حين تلتمع في لحظة الخطر”.
في ضوء تعرّض الشرق الأوسط، بل وربما العالم بأكمله للخطر، بسبب “تغوّل” قوى اليمين المتطرّف، يصبح “الريل” هنا جزءاً من آلة مناهضة تقبض على لمحات ولمعات من لحظات القتال. فهو يسعف المقاوم والمؤرّخ معاً في لحظة الخطر.
بهذا المعنى، “الريلات” ليست فقط مواد تاريخية يمكن استخدامها كوثائق في عملية كتابة مستقبلية للتاريخ، بل هي أفعال تأريخية وأرشيفية بحد ذاتها. وحسب الفيلسوف الفرنسي جي دبور صاحب كتاب “مجتمع الفرجة” قد يحدث “تحوير” أي عملية استخدام مادّة مصنوعة في سياق معيّن، وتحويل مسارها بهدف تخريب وظيفتها الأيديولوجية التي تخدم الهيمنة، وفضح تلك الوظيفة.
وفي السياق نفسه، نقرأ ألعاب “الفيديو” و”الآفاتار”. كل هذه الصيغ البصرية تمثّل ترحيلاً وتهجيراً بالمفهوم الذي يطرحه الفيلسوف الفرنسي دولوز، أي خلع لوظيفة “الريل” ونظامه الجمالي، من موقعه كقصيدة عشق للاستهلاك والترفيه، وترحيله إلى أرض ناقدة مقاومة.
فهو لا يسهم فقط في تأريخ مغاير أو مواز لخطاب القوى المهيمنة، وتوثيق وجهة نظر المستضعفين، بل يسهم في تغيير اللغة البصرية واللغة اللفظية، ويقلبهما رأساً على عقب. فكما ينفجر التاريخ في غزة تنفجر اللغة، ونتعلم لغة جديدة في الكلام وفي المشاهدة.
تغيير الوعي
أنت أكاديمي مقيم في الغرب، فهل ترى من موقعك أن جماليات “الفيديو” غيّرت من نظرة البعض إلى الصراع، أم زادت في تبرير الحرب على غزة ولبنان؟
لا أدري إن كان شيوع المواد البصرية قد أسهم في جذب الشباب من غير العرب إلى جانب الحق العربي. المؤكد أن تلك الجماليات لفتت انتباه الشباب لمتابعة الأحداث.
منذ قيام الحرب، صرّح سياسي أميركي بما معناه: “لدينا مشكلة تيك توك”. لأن المنصّة تعرض مواد توضح حقيقة العدوان على الفلسطينيين العزل. ما يزيد تأييد الشباب للحق الفلسطيني غالباً في المجتمع الأميركي، ليست الجماليات، ولكن تعدّد منصات التواصل التي تسمح بعرض معلومات تحجبها القنوات المؤيدة للاحتلال.
“فيسبوك” و”إنستجرام”، تبثّان دعاية الاحتلال وتقمعان الصوت الآخر، أما “تيك توك” و”تيليجرام”، فتفسحان المجال للمعلومات التي توثّق جرائم الاحتلال. يعكس هذا التوجّهات الاستراتيجية للشركات المالكة للمنصّات، وسعي كل منها للاستحواذ على نصيب من السوق المعولمة.
هل الجاليات العربية في الغرب قادرة على تقديم دعم ثقافي أو سياسي للفلسطينيين واللبنانيين؟
في الغرب، يوجد دعم شعبي كبير للحقوق الفلسطينية، كما تدلّ التظاهرات التي يشارك فيها مئات آلاف الداعمين، الذين يتعرّضون لعنف لا مثيل له. واللافت للنظر، أن تلك المظاهرات تضم عرباً وغربيين من البيض والأشكيناز المعارضين لسياسات الاحتلال. لكن القمع يتفاوت من مجتمع لآخر.
القمع في أميركا أكبر منه في أوروبا – فيما عدا ألمانيا التي تمارس قمعاً متبجّحاً. في أوروبا، هناك وعي أكبر بأن دعم الاحتلال، يعني انهيار منظومة حقوق الإنسان والقانون الدولي، كما عرفها العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. واندماج الجاليات العربية في ذلك التحالف الأوسع، ضد المجازر التي يتعرض لها الفلسطينيون واللبنانيون، هو ما يحميها ويمنحها مصداقية: فالقضية قضية حق وليست مجرد دفاع أبناء قبيلة واحدة عن ذويهم.