أجبرت الحرب التي شنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا قبل نحو عامين، دول أوروبا على اتخاذ “خطوة متأخرة” في اتجاه التحول من عقلية التبادل التجاري والاقتصادي مع روسيا إلى عقلية الحرب، وذلك في ظل حملات تهدف لزعزعة استقرار القارة، بحسب “بلومبرغ”.
وأوضحت “بلومبرغ” أن الافتقار الأوروبي إلى سياسة خارجية موحدة للكتلة المكونة من 27 دولة، يعد نقطة ضعف تمكن بوتين من استغلالها، إذ أجبر أكبر صراع شهدته القارة منذ الحرب العالمية الثانية، الاتحاد الأوروبي على مساعدة أوكرانيا، بينما سعى التكتل إلى حماية بلدانه من الانجرار مباشرة إلى صراع أوسع.
وسلطت العديد من استخبارات الدول على طول الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، الضوء على ما تشهده الوكالات العسكرية والاستخباراتية من حملة متصاعدة من الهجمات التي يشنها الكرملين بهدف زعزعة استقرار أوروبا.
اتهامات أوروبية لروسيا
وتشمل هذه الهجمات، التخريب المزعوم للطائرات والبنية الأساسية الحيوية في ألمانيا، والتدخل السري المزعوم في الانتخابات في كل من رومانيا ومولدوفا.
وهذا الشهر، ألغت المحكمة العليا في رومانيا الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية وأمرت بإعادة الانتخابات، بعد أن أبرز مسؤولون أمنيون ما أسموه حملة تدخل روسي لدعم مرشح مؤيد لبوتين.
ولدى رومانيا أطول حدود مع أوكرانيا بين دول الاتحاد الأوروبي وتستضيف قاعدة رئيسية لحلف الناتو. وجاء ذلك، بعد أن اتهمت السلطات في مولدوفا، روسيا برشوة الناخبين في استفتاء على العضوية المستقبلية في الاتحاد الأوروبي، فيما نفت موسكو أي تورط.
كما حذرت وكالات الاستخبارات الأوروبية والأميركية الشهر الماضي، من أن روسيا تخطط لزرع أجهزة حارقة على الطائرات من خلال خدمات الشحن الجوي.
واتهمت السلطات الألمانية في يوليو الماضي، روسيا بافتعال حريق في طرد لشركة DHL، في مركز لوجستي لشركة في لايبزيج، كما تبين أن أجهزة الأمن الأميركية والألمانية أحبطت مؤامرة روسية لاغتيال رئيس شركة Rheinmetall AG، أرمين بابرجر، أحد أكبر مصنعي الأسلحة في ألمانيا ومنتج أسلحة لأوكرانيا.
وكانت الأعمال العدائية الروسية عنصراً رئيسياً في اجتماع عُد هذا الشهر بين وزراء خارجية الحلف في بروكسل.
اعتراف أوروبي
وفي الإطار، قال وزير خارجية ليتوانيا، جابريليوس لاندسبيرجيس، في مؤتمر عقد قبل أيام: “من الصعب الاعتراف بهذا، ومن غير الملائم سياسياً الاعتراف به، ومن المكلف اقتصادياً قبوله، لكن من واجب أي سياسي يهتم بأوروبا أن يعترف بهذا الواقع”.
بدوره، قال رئيس الوزراء التشيكي بيتر فيالا، مستعيداً ذكريات الطفولة عن الدبابات السوفيتية التي أرسلتها موسكو لسحق “ربيع براج” في تشيكوسلوفاكيا السابقة في عام 1968: “لا يمكننا نحن الأوروبيين أن نغض الطرف، لأن نجاح روسيا في أوكرانيا لن يتوقف عند هذا الحد. يتعين علينا زيادة قدرات إنتاج الأسلحة وبذل المزيد من الجهود من أجل أمننا”.
كما أوضح الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، ما كان العديد من زملائه الأوروبيين ينكرونه: “لقد حان الوقت للتحول إلى عقلية الحرب”.
وعرض روته، وجهة نظره في أول خطاب رئيسي له كأمين عام للحلف منذ توليه المنصب في أكتوبر الماضي، قائلاً: “قد لا تكون أوروبا في حرب كاملة بعد، لكنها بالتأكيد ليست في سلام”.
والواقع أنه لا يزال من غير الواضح، ما مدى استعداد بوتين لخوض حرب، إذ رأى وزير الدفاع البريطاني السابق، بن والاس، إنه يوجد “احتمال ضئيل” بأن يخوض الرئيس الروسي حرباً مع الناتو، لأنه يعلم أنه لا يستطيع المنافسة عسكرياً.
وفي الوقت نفسه، عزز الحلف وجوده في منطقة البلطيق، حيث نقلت ألمانيا لواءً كاملاً إلى ليتوانيا كجزء من خطط الدفاع الإقليمية الجديدة التي يقول التحالف إنها “الأكثر تفصيلاً منذ نهاية الحرب الباردة”، فيما تحث فنلندا والسويد، مواطنيهما على الاستعداد بشكل أفضل للصراع.
وكان القادة الأوروبيون بطيئين في قبول حقيقة أنهم في عصر جديد خطير ضد عدو روسي يشن ما يعتبره “صراعاً وجودياً” ضد الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو.
وتوقع مسؤول عسكري أوروبي، أن تكون موسكو في وضع يسمح لها بشن هجوم على أراضي الحلف في غضون خمس إلى ثماني سنوات، مع تعرض البلدان الواقعة على الجناح الشرقي للحلف للخطر.
وحتى لو انتهى الغزو الروسي لأوكرانيا قريباً، فإن أوروبا ستواجه روسيا المعادية التي يدعم جيشها المتمرس اقتصاداً حربياً ينتج كميات هائلة من الأسلحة.
معضلة الانفاق الدفاعي
ويخشى بعض المسؤولين من وقوع صدام عسكري مباشر، ويخشون أن تُترك أوروبا مكشوفة، إذا ضعفت الضمانات الأمنية الأميركية داخل الناتو في عهد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.
ولذلك يتعين على أوروبا أن تنفق مبالغ طائلة لتعويض ذلك، إذ من المقرر أن يحقق أكثر من ثلثي أعضاء الحلف أو يتجاوزوا هدف التحالف المتمثل في استثمار ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي في الدفاع، لكن الاتحاد الأوروبي لا يزال يحاول معرفة كيفية تعزيز تصنيع الأسلحة بمئات المليارات من اليورو التي يحتاجها.
وقال أحد المسؤولين الأوروبيين، لم تذكر “بلومبرغ” اسمه، إن المشكلة تكمن في أن كثيرين في الكتلة “ما زالوا يعتقدون أنه يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة بغض النظر عمن يحكم في البيت الأبيض”.
وأضاف: “ليس الأمر وكأن بوتين لم يخطر بباله ما قد يحدث. ينظر الزعيم الروسي إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وكل ما أعقبه باعتباره مأساة وكان دائماً يسعى لاستعادة السلطة، كما أشار إلى تصميمه على مواجهة الغرب في وقت مبكر من عام 2007، عندما وصف توسع حلف الناتو بأنه استفزاز خطير في مؤتمر ميونخ الأمني السنوي”.
وخاضت روسيا حرباً في جورجيا في العام التالي، واحتلت خُمس البلاد، ثم شرع بوتين في عملية إعادة تسليح ضخمة استمرت عقداً من الزمان، واستُخدمت تلك القوات لضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014.
كما أرسل بوتين قواتاً روسية لدعم حكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد في سوريا في عام 2015، ما عزز وصوله إلى البحر الأبيض المتوسط.
رهانات بوتين تؤتي ثمارها
وفي كل مرة، بدا أن رهانات بوتين تؤتي ثمارها، حيث لم تحظ بمعارضة جادة من الولايات المتحدة وحلفائها، ما دفع المسؤولين الروس بشكل متزايد إلى النظر إليه باعتباره زعيماً “معصوماً من الخطأ ولا يمكن التشكيك في قراراته”.
وقال بوتين، إن الولايات المتحدة تحاول “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في أوكرانيا”، كما ذكر مؤخراً في اجتماع مع كبار المسؤولين الدفاعيين أنه “تحت ذريعة التهديد الروسي غير الموجود، يخيفون شعبهم بمزاعم مفادها أننا نعتزم مهاجمة دولة ما”.
بدوره، لم يخف وزير الدفاع الروسي، أندريه بيلوسوف، أحدث الأفكار، إذ قال في نفس الاجتماع إن البلاد بحاجة إلى تعزيز جيشها لضمان “الاستعداد الكامل لأي تطور للوضع في الأمد المتوسط، بما في ذلك الصراع العسكري المحتمل مع حلف شمال الأطلسي في أوروبا في العقد المقبل”.