قالت دراسة حديثة، نُشرت في دورية Nature Astronomy “نيتشر أسترونومي”، إن المركبات الفضائية، وبقايا المعدات المنتشرة على سطح المريخ ليست مجرد “قمامة فضائية”، بل تمثل سجلاً أثرياً يوثّق الخطوات الأولى للبشرية في استكشاف الكواكب.
وفي كل مرة تطأ عجلات مركبة استكشافية، أو روبوت متجوّل، سطح المريخ، تترك البشرية بصمة مادية على الكوكب الأحمر، ومع ذلك، تثير هذه الأشياء قلق باحثين بشأن ما إذا كانت تمثل عائقاً أمام المحاولات المستمرة لاستكشاف المريخ.
ومنذ إطلاق أولى المهمات إلى المريخ في الستينيات، تزايدت آثار الوجود البشري على الكوكب، من المظلات المهجورة، وقطع الأجهزة المتضررة، إلى المركبات المعطَّلة التي أنهت مهماتها.
وتثير هذه البقايا تساؤلات مهمة: هل هي إرث حضاري يمثل الطموح البشري لاستكشاف الكون، أم أنها مجرد نفايات كونية تشوّه طبيعة المريخ البكر؟
حتى اليوم، أُرسلت أكثر من 50 مهمة إلى المريخ، تنوَّعت بين مركبات متجولة، ومجسَّات ثابتة. ورغم النجاحات الباهرة التي حققتها بعض هذه المهمات، إلا أن العديد منها لم يُكمل رحلته، أو انتهى به المطاف مُحطماً على سطح الكوكب.
وتشمل هذه البقايا معدات هبوط مهجورة، مثل المظلات الحرارية، وأغطية الحماية التي تُترك بعد استخدامها لتخفيف سرعة المركبات أثناء الدخول إلى الغلاف الجوي، وحطام المركبات الفاشلة التي تحطَّمت أثناء محاولات الهبوط، مثل مركبة Beagle 2 “بيجل2” التي فُقد الاتصال بها منذ عام 2003، بالإضافة إلى المركبات المعطَّلة، مثل Spirit “سبيرت” وOpportunity “أوبرتيونتي” التي توقفت عن العمل بعد سنوات من الإنجازات، لكنها لا تزال راكدة كشاهد على الطموح البشري.
تاريخ استكشاف المريخ
ويرى العديد من العلماء والمؤرخين أن هذه البقايا تشكل إرثاً حضارياً فريداً، يوثّق تاريخ استكشاف البشرية للكوكب الأحمر؛ فهي تُمثل شهادة على الجهود الهندسية، والابتكارات العلمية التي جعلت استكشاف المريخ ممكناً؛ بل إن بعض المؤرخين يعتبرون أن بقايا هذه المهمات قد تكون يوماً ما معالم تاريخية للزوَّار المستقبليين للمريخ، مثلما ننظر اليوم إلى الحفريات، أو الآثار القديمة على الأرض.
كما أن دراسة هذه البقايا قد توفر رؤى مهمة للمهندسين والعلماء؛ فتحليل كيفية تأثير بيئة المريخ على المواد المختلفة المستخدمة في المهمات يمكن أن يسهم في تحسين تصميم المركبات المستقبلية.
وتدعو الدراسة الجديدة، التي قادها الأنثروبولوجي جاستن هولكومب، من جامعة كانساس، إلى تصنيف وحفظ هذه المواد كجزءٍ من التراث الإنساني المشترك، مشيرة إلى أن هذا النهج يضمن فهماً أفضل لتاريخ البشر في التوسع نحو الفضاء الخارجي.
وترى الدراسة أن الآثار المادية لاستكشاف المريخ، مثل المركبات الجوَّالة وأجزاء المركبات المحطَّمة، تمثل بصمة مادية تدل على التوسع البشري نحو الفضاء، كما تشير إلى أن هذه المواد، على غرار الاكتشافات الأثرية على الأرض، يمكن أن تساعد في تتبع تاريخ النشاط البشري، وفهم تطوره على نطاق كوني.
وتعتبر الدراسة أن نقطة البداية للسجل الأثري على المريخ كانت عام 1971، مع تحطم مركبة Mars 2 “مارس 2” السوفيتية، التي تعد أول أثر مادي للبشرية على سطح الكوكب الأحمر.
ومنذ ذلك الحين، تراكمت بقايا مركبات فضائية، ومعدات هبوط، وأجزاء من المعدات المرسلة إلى المريخ في إطار مهمات استكشاف الكوكب.
“التلوث الكوني”
كما تلفت الدراسة الانتباه إلى التحديات التي تواجه حفظ هذه المواد، بما في ذلك الظروف البيئية الفريدة للمريخ، مثل العواصف الترابية العالمية، والتغيرات الناتجة عن وجود الجليد في المناطق القطبية، وتأثير الرياح القوية والتربة الغنية بالحديد. وتشير إلى أن هذه العوامل قد تؤدي إلى دفن، أو تدهور تلك المواد بطرق معقدة يصعب دراستها حالياً.
وتشدد الدراسة على ضرورة اعتماد منهجيات واضحة لتتبع، وتوثيق المواقع التي تحتوي على هذه المواد، للحفاظ عليها من التدمير العَرَضي خلال المهمات المستقبلية.
كما تشير إلى أن إنشاء قواعد بيانات لتسجيل مواقع القطع، والمعدات الفضائية على المريخ، يمكن أن يساعد في حماية هذا الإرث، وربما استخدام أنظمة مثل سجل الأمم المتحدة للأجسام المطلقة في الفضاء لهذا الغرض.
وبحسب هولكومب: “يمكن إنشاء قواعد بيانات تتبع كل قطعة من هذه المواد، بداية من عجلة مكسورة لمركبة جوالة، وصولاً إلى شفرات أول مروحية على كوكب آخر؛ فهذه القطع تعادل الفؤوس الحجرية في إفريقيا، أو رؤوس السهام في أميركا، فهي تمثل أولى نقاط وجودنا في سجل الهجرة التاريخي”.
ويضيف أن البيئة المريخية تقدم تحديات مختلفة، موضحاً أنه في المناطق الشمالية والجنوبية “قد يتسبب الجليد في تغيير سريع للمواد، أما الرمال الغنية بالحديد والعواصف الترابية، فقد تؤدي إلى دفن المواد بالكامل، مما يجعل من الصعب استعادتها لاحقاً”.
وهناك مخاوف جدية من أن هذه البقايا تشكل نوعاً جديداً من التلوث وهو “التلوث الكوني”؛ فمع تزايد عدد المهمات، قد تتحول هذه النفايات إلى عقبة أمام المهمات المستقبلية، خاصة إذا اصطدمت مركبات جديدة بالحطام القديم.
كما أن هناك قلقاً بشأن تأثير هذه البقايا على الأبحاث العلمية. فإذا كان أحد أهم أهداف استكشاف المريخ هو البحث عن أدلة على وجود حياة سابقة، أو حالية، فإنه مع وجود مواد عضوية، ومعدات بشرية على السطح، يصبح من الصعب التمييز بين الإشارات الحيوية التي قد تكون ناتجة عن الحياة المريخية، وتلك التي جاءت مع المعدات البشرية.