في بيروت، ثمّة مجال دائماً للأعمال الثقافية المميزة، التي تزيد من زخم الحياة في المدينة، وتملأ فضاءاتها بالفن والموسيقى، فضاءات تتقاسمها اليوم أصوات الطائرات الحربية، وأصوات الموسيقى التي بدأت نشاطها بمعزوفة “قداس التتويج” لموزارت، وهي معزوفة افتتاحية للفعاليات التي تقدّمها سنوياً جمعية “بيروت ترنم”.
بدأت “بيروت نرنّم” قبل سبعة عشر عاماً، بجهود فردية، هدفت إلى اجتذاب الموسيقى العالمية إلى قلب لبنان، وهو حدث يتعلق بفترة الميلاد المجيد تحديداً، حيث تصدح الموسيقى في المدن الأوروبية الكبرى، مثل براغ، وباريس، وروما، ولندن.. وتمتلىء أروقتها بالحفلات الموسيقية الكلاسيكية والمقطوعات الأكثر شهرة على مستوى العالم.
تقول ميشلين أبي سمرا مؤسسة ومديرة مهرجان “بيروت ترنم” لـ”الشرق”: “كنت حزينة قبل التأسيس، لأنه لم يكن لدينا في لبنان فعاليات فنية مشابهة لما يحصل في العواصم الأوروبية من احتفالات خاصة بالميلاد، وأننا في لبنان، لا علاقة لنا بالحروب التي تحصل، ونريد أن نعيش بسلام، وأنه من حقنا أن يكون لدينا حفلات للموسيقى الميلادية كحدث ثقافي كبير”.
شراكات واسعة
وأوضحت أن شعارنا للموسم السابع عشر “لا صوت يعلو فوق صوت الموسيقى”، وأن المهرجان هذه السنة توسّع كثيراً، فلدينا شراكات مع جامعة الألبا وجامعة البلمند والجامعة الانطونية وغيرهم، وهذا يدلّ على حاجة أنتجت تعاوناً لتكثيف الأنشطة الثقافية في بيروت، كرد طبيعي على رغبتنا بالحياة واستمرارها، وتفعيل دور المدينة الحقيقي”.
ولفتت أبو سمرا إلى أن “فريق العمل هو تطوّعي بالكامل، وكل من يعمل معنا في الجمعية يقدّم خدماته من دون تقاضي أي مقابل، والجمعية منذ أن تأسست، وهي تعمل وفق هذا النهج، لأننا نريد العمل الثقافي فقط، كما أننا لا نبيع تذاكر للحفلات، وإنما هي حفلات مجانية للجميع”.
أما عن التكلفة المرتفعة للموسيقيين العالميين الذين يأتون الى المهرجان في لبنان، فأكدت أبو سمرا أن “سفارات بلادهم تقوم بتغطية نفقات سفرهم وإقامتهم، مثل بعثة الإتحاد الأوروبي في لبنان، أو السفارة البلجيكية والكورية والأميركية وغيرها”.
أضافت: “نستأجر الأماكن التي نقيم فيها الأمسيات الموسيقية، كالكنائس والأديرة بمبالغ رمزية، لتغطية نفقات ومصاريف بسيطة. علماً أن البرنامج يستقدم فنانين من كافة أنحاء العالم”.
تستقبل “بيروت ترنّم” هذا العام، موسيقيين كبار، مثل الإسباني فرانسيسكو فولانا، الذي يعدّ من أهم عازفي الكمان في العالم، إلى جانب البلجيكية عازفة التشيلو ستيفاني هوانغ، وعازف البيانو فلوريان نواك، وأيضاً عازف البيانو الفرنسي ثيو فوشينريه، الذي يعدّ من أفضل المواهب على مستوى العالم حالياً، فضلاً عن المواهب اللبنانية، مثل غادة شبير، وبشارة مفرّج، وكارلا شمعون، وريبال وهبي، وزياد الأحمدية، وأوركسترا الفيحاء، وغيرهم.
الموسيقى للفقراء أيضاً
في النسخة الجديدة من “بيروت ترنم”، عملت الجمعية منذ سنوات على المشاركة في برنامج “سيستيما”، الذي تأسس عام 1975 في فنزويلا، وهو يهتم بتعليم الموسيقى للأطفال، الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية غير ميسورة.
في لبنان بدأ البرنامج عام 2022، ويحمل الشعار التاريخي للبرنامج “الموسيقى من أجل التغيير الثقافي”، ويستهدف الأطفال من الأحياء الفقيرة، من كافة مناطق لبنان، ويؤمّن لهم التنقل والتعلّم، من أجل تطوير مهاراتهم الموسيقية، كوسيلة تؤدي الى تغيير اجتماعي، فردياً وجماعياً.
وفي عامه الثاني، كان البرنامج يتجوّل، في كافة المناطق اللبنانية بالتلاميذ ومعلّميهم، بهدف إيصال الموسيقى إلى الناس بدلاً من ذهابهم إليها.
وأوضحت أبو سمرا، أن “سيستيما” قدّم بنسخته اللبنانية، إضافة إلى التعليم المجاني، والتنقّل وبعض التفاصيل الأخرى، فرصة كبيرة للموسيقيين الصغار. فقد عزفوا مع فرقة “بلاك آليي” الشهيرة عالمياً، في حفل موسيقي خاص، أقيم في مرفأ بيروت، تخليداً لذكرى الضحايا الذين ذهبوا نتيجة الانفجار في 4 أغسطس، وأودى بحياة المئات، وحطّم جزءاً كبيراً من العاصمة اللبنانية، هو الأكثر تعبيراً عن ماضي المدينة وأحيائها التي نجت من الحرب السابقة (1975-1990).
وأكدت أن المشروع، يسهم إضافة إلى كل ما سبق، في نشر المواطنة والترابط ووحدة الهدف، من خلال التعليم الموسيقي، وهي مُثُل عليا تسعى لدمج كافة الشرائح الاجتماعية. ومن ضمن ذلك، ضمان استمرار الحراك الثقافي بين طبقات المجتمع اللبناني”.