حتى 2012 لم يكن يُعرف الكثير عن أبو محمد الجولاني، عندما أعلن في ذلك العام تأسيس جماعة مسلحة متشددة في سوريا وسط فوضى الفصائل المنتشرة على طول البلاد وعرضها. لسنوات ظلّت هويته مجهولة والمعلومات حوله شحيحة، قبل أن تتكشف ببطء على مدى العقد الماضي، لتظهر رويداً رويداً ملامح من سيرة شخص عرضت الولايات المتحدة 10 ملايين دولار مقابل رأسه أو الإدلاء بمعلومات عنه، لكنه مع ذلك، خرج من الظل وبات يتصدّر واجهة الأحداث، كأحد أقوى قادة الحرب في سوريا.
هناك روايات عديدة ومتضاربة بشأن نشأة ومسيرة أحمد الشرع المعروف بـ”أبو محمد الجولاني”، بما في ذلك جذوره وعائلته والعوامل التي أسهمت في تشكيل أفكاره وانضمامه إلى تنظيم “القاعدة” في العراق في عام 2003، ومن ثم العودة إلى سوريا بعد بدء الصراع في عام 2011، مع خلية من عدة أشخاص، توسعت مع الوقت وأصبح عديدها عشرات الآلاف، واليوم تقود فصائل المعارضة السورية المسلحة في أكبر تهديد عسكري لحكومة دمشق، لم يشهده الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي حكم منذ عام 1970، ولا نجله بشار الأسد الذي خلف والده في عام 2000.
عائلة ميسورة وأب يساري
لم ينحدر الجولاني من بيئة جهادية أو ذات صلة بالعمل المسلح، بل ينتمي لأسرة من الطبقة الوسطى. والده خبير اقتصادي اسمه حسين الشرع من المحتمل أنه يحمل شهادة الدكتوراة، واختص في مجال النفط لسنوات، استقر خلالها في السعودية حيث ولد ابنه أحمد في عام 1982، قبل أن تعود العائلة إلى سوريا وتستقر في أحد الأحياء الراقية في العاصمة دمشق.
من غير المؤكد على نحو دقيق ما هي المؤهلات الدراسية للجولاني، فبينما تُشير مصادر إلى أنه درس الطب البشري لعامين أو 3 أعوام في جامعة دمشق، تقول مصادر أخرى إنه درس الإعلام في الجامعة نفسها، وفي الحالتين ما هو مؤكد أن الشاب لم يكمل تعليمه، مفضلاً السعي وراء هواه والالتحاق بركب المتوطعين لقتال الأميركيين في العراق.
أما اختياره لقب “الجولاني”، فيعود، وفق ما كشف أحمد الشرع نفسه، إلى المنطقة التي تنتمي لها عائلته في الأصل، وهي هضبة الجولان السوري المحتل جنوبي غرب البلاد، وبحسب تقرير، نشره موقع “الجمهورية” المستقل، نزحت العائلة إلى دمشق بعد حرب 1967 التي احتلت فيها إسرائيل أراضي 3 دول عربية.
وتناول التقرير بعض أفكار الشرع الأب السياسية، والتي ذكرها في كتاب أصدره بعنوان “قراءة في القيامة السورية”، اعتبر فيه أن “الانتقال السياسي، يكون ببناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية على أساس المواطنة بلا تمييز في العرق أو الدين أو المذهب، عبر وضع دستور جديد للبلاد يضمن استقلالها، والسيادة المطلقة للشعب، واحترام الحريات والرأي الآخر، والتعددية السياسية، وحرية عمل الأحزاب، وخضوع المؤسسات للقوانين، وإبعاد الجيش وقوات الأمن عن السياسة بعد تقديم المجرمين منهم لمحاكم عادلة”.
لا يزال حسين الشرع على قيد الحياة، على الأرجح يعيش خارج سوريا. ومن غير المعروف ما إذا كان يتواصل مع ابنه، وما إذا كان لتوجهاته السياسية أي تأثير أو دور في الانقلاب الذي يزعم “الجولاني” أنه طال نهجه ورؤيته تجاه التغيير في سوريا أو حتى تجاه الأديان والمذاهب الأخرى، وكذلك موقفه من الولايات المتحدة والدول الغربية.
القتال في العراق
في موجة الحماس والاندفاع العاطفي التي غمرت الشارعين العربي والإسلامي في الأسابيع القليلة التي سبقت الغزو الأميركي للعراق، كان الشاب أحمد الشرع ابن الـ21 عاماً من بين المتطوعين الأوائل الذين قطعوا الحدود السورية وانضموا إلى الفصائل العراقية، وتُشير تقارير عديدة إلى دور أجهزة الأمن في سوريا بتسهيل عبور المقاتلين إلى العراق آنذاك.
ومن غير الواضح ما إذا كان الشرع اندفع بحمولة من الغضب لغزو بلد عربي، أو أنه استُقطب من شخصيات دينية متشددة أو تأثر بخطب الداعية السوري المعروف باسم “أبو القعقاع” الذي كان يحث عبر منابر المساجد على “الجهاد ضد القوات الأميركية في العراق” تحت مرأى ومسمع السلطات السورية، وهذا الأخير، واسمه الحقيقي “محمود قول أغاسي” لقي حتفه في عام 2007 إثر تعرضه لإطلاق نار بعد خروجه من صلاة الجمعة في مدينة حلب، ولا تزال ملابسات اغتياله وأنشطته الغامضة طي الكتمان.
في مقابلته التي بُثّت حديثاً مع شبكة CNN الأميركية، قال الجولاني، إنه لم يتوجه إلى العراق للانضمام إلى “القاعدة”، بل هبّ للدفاع عن العراقيين، وفق قوله، لافتاً إلى أنه في خضم انتشار الجماعات وجد نفسه في أحضان تنظيم متشدد، نافياً تورطه بأي انتهاكات ضد مدنيين خلال نشاطاته في العراق، وقال إنه لم يكن يتفق مع كل ما يفعله التنظيم.
بعد مراجعة العديد من المصادر، يمكن القول إن الجولاني انضم في بداية نشاطه في العراق إلى تنظيم “القاعدة” تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي، ولم يُعرف الكثير بشأن المهام التي كانت يتولاها في تلك الفترة، وفي مرحلة لاحقة ألقت القوات الأميركية القبض عليه، وأودعته في سجن أبو غريب ، ثم تنقل بين عدد من السجون من بينها بوكا، قبل أن يودع سجن تُشرف عليها السلطات العراقية.
وخلال وجوده في السجون تعرّف الجولاني على عدد من الشخصيات المتشددة، والتي سيتولى بعضها ويقود أنشطة التنظيمات المسلحة في السنوات اللاحقة.
في عام 2008، تم إطلاق سراح الجولاني، ليعاود نشاطه ضمن جماعات تحمل نفس النهج، لكن هذه المرة في صفوف ما يعرف بـ”الدولة الإسلامية في العراق” بقيادة إبراهيم إبن عواد المعروف بـ”أبو بكر البغدادي”، ليكسب ثقته ويعينه مسؤولاً عن أنشطة التنظيم في الموصل شمالي العراق.
من خلية إلى تنظيم كبير
بعد اندلاع الصراع في سوريا في عام 2011، إثر انتفاضة سلمية ضد السلطات، تحولت إلى نزاع مسلح بعد حوالي العام، توجهت أنظار التنظيمات العراقية نحو سوريا، حيث وجدت فيها فرصة سانحة لتوسيع أو نقل نشاطها إلى منطقة أخرى.
وكان الجولاني من بين عدة أشخاص أوفدهم آنذاك البغدادي إلى سوريا لتمهيد الظروف من أجل تأسيس فرع جديد لتنظيم “الدولة الإسلامية” على الأراضي السورية، واتخذت الخلية مقراً لها في بلدة “الشحيل”، بمحافظة دير الزور شرقي سوريا، وعلى مقربة من الحدود العراقية، واستهلت عملها عبر توزيع المساعدات، ليكون بوابة لكسب ود الناس وبناء سمعة جيدة لدى الشارع السوري.
وبالفعل بدأت في عام 2012 تنتشر مقاطع فيديو لعمليات توزيع مساعدات تشمل الخبز والأغذية وأسطوانات الغاز على الأهالي في بعض المناطق النائية، وعلى التوازي مع ذلك، عمل الجولاني على تجنيد أعضاء ومقاتلين في التنظيم، والاستعداد لتنفيذ عمليات ضد القوات الحكومية.
في يناير من العام نفسه، أعلن الجولاني في بيان، تشكيل “جبهة النصرة لأهل الشام”، داعياً السوريين إلى “الجهاد لإسقاط النظام”، وفي تلك الفترة كان يُخفي التنظيم ارتباطه بجماعات خارجية، وكان يقول قادته الميدانيون إن هدفهم “إقامة دولة إسلامية تقوم على نظام الشورى يسود فيها العدل والإحسان”، واستطاعوا ضم مقاتلين سوريين وأجانب، بعضهم قدم من العراق وبعضهم الآخر دخلو سوريا عبر الحدود التركية.
وسرعان ما أخذت أخبار العمليات النوعية التي نفذتها “جبهة النصرة” ضد القوات الحكومية صداها في وسائل الإعلام، وأبرزها في ديسمبر 2012 عندما اقتحمت مجموعة من عناصرها مبنى قيادة أركان الجيش في قلب العاصمة دمشق بعد تفجير سيارتين مفخختين يقودهما انتحاريان، ثم اقتحم عدة مسلحين المبنى وسيطروا عليه لعدة ساعات قبل أن يلقوا مصرعهم إثر تدخل السلطات واستعادة المبنى.
وفي بداياتها اقتصرت عمليات التنظيم على تنفيذ هجمات انتحارية سواء بالمفخخات أو الأحزمة الناسفة، إضافة إللى القيام بعمليات محدودة.
وسرعان ما شكّل التنظيم شبكة إعلامية تضم مجموعة مراسلين في العديد من المناطق السورية، وبدأوا ببث بيانات وإصدرات عن أنشطة “جبهة النصرة، منها مثلاً في منطقة القلمون وهي سلسلة جبلية شمالي غرب دمشق، حيث نشطت هناك خلية من “جبهة النصرة” بقيادة “أبو مالك التلي”، المعتقل المتشدد السابق في سجن صيدنايا الشهير، الذي أفرجت عنه السلطات السورية مع بداية الصراع، وهو الأمر الذي أثارت استغراباً وتساؤلات حول دوافع الأمر.
واستطاعت خلية “التلي” خطف العديد من الجنود اللبنانيين في عام 2014 والدخول في مفاوضات مع الجيش اللبناني للإفراج عنهم في صفقة تضمنت خروج شقيقه من سجون سوريا. كما عُرف في العام نفسه، خلال أزمة “راهبات معلولا” عندما اختطف عدداً من الراهبات وأطلق سراحهن مقابل صفقة حصل فيها على مبالغ طائلة. وانتقل إلى محافظة إدلب بموجب اتفاق بين “حزب الله” اللبناني و”هيئة تحرير الشام” في أغسطس 2017.
في الوقت نفسه كانت تنتشر مقاطع تُظهر ممارسات عنيفة لعناصر من التنظيم ضد مدنيين وعسكريين، على غرار الإعدام بإطلاق النار مباشرة على الرأس، وكانت تلك المشاهد تُثير الفزع والرعب والقلق من تمدد هذه التنظيمات مع ما تنتهجه من تشدد وعنف.
في ديسمبر 2012، صنفت الخارجية الأميركية “جبهة النصرة” كمنظمة “إرهابية”. وفي مايو 2013، تم تصنيف أبو محمد الجولاني، على أنه “إرهابي عالمي مُصنَّف بشكل خاص”، وأعلنت الولايات المتحدة حجز ممتلكاته الخاضعة لنطاق سلطتها، ومنع أي مواطن أميركي من التعامل معه.
عقوبات أميركية
وفي العام نفسه أدرجت لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، الجولاني في قائمة “الإرهابيين المحظورين” وجعلته موضع تجميد دولي، ومنع من السفر، وحظر الأسلحة.
واستشهدت العقوبات الأميركية بـ”الرؤية الطائفية العنيفة” للتنظيم، وقالت إن “الهدف النهائي له هو الإطاحة بالنظام السوري واستبداله بدولة إسلامية لتعزيز أجندتها الخاصة كواحدة من الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا”، مضيفة أن الهجمات الانتحارية التي نفذتها مجموعته “قتلت مدنيين سوريين أبرياء”.
وحمّلت الولايات المتحدة، التنظيم، مسؤولية “المجزرة التي راح ضحيتها 20 سورياً في قرية قلب لوزة الدرزية” شمالي البلاد في يونيو 2015، والتي قال الجولاني في أكثر من مناسبة إنها “تصرف فردي”، مؤكداً أنه “جرى محاسبة المسؤول عنها”.
وفي عام 2017، عرض برنامج “مكافآت من أجل العدالة الأميركي” عن صرف مكافأة تصل قيمتها إلى 10 ملايين دولار أمريكي مقابل الإدلاء بأي معلومات متعلقة بالجولاني.
وخلال العقد الفائت، وثّقت العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية، انتهاكات مارستها “هيئة تحرير الشام” ضد المدنيين، تشمل الهجمات العشوائية، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب، وعمليات التصفية.
وفي تقرير سابق، قالت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا، إن “الهيئة متورطة بعمليات التعذيب والعنف الجنسي والمعاملة اللاإنسانية أو المهينة والاختفاء القسري أو الوفاة أثناء الاحتجاز”، بدءاً من عام 2012. وأشار تقرير عام 2021 إلى أنه “بينما بلغت الحوادث ذروتها في 2014، تم توثيق مستويات مماثلة من الانتهاكات من عام 2013 إلى عام 2019”.
كما أشارت اللجنة إلى قمع المعارضة السياسية، وقال إنه تم توثيق عشرات الشهادات من النشطاء والصحافيين والعاملين في شمالي سوريا الذين انتقدوا “هيئة تحرير الشام”. وأضاف أن الناشطات والعاملين في وسائل الإعلام من النساء “تعرضن للضرب مرتين”، ووثقت تقارير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، شهادات لأشخاص وصفوا فيها بالتفصيل، تعذيبهم، أثناء احتجازهم من قبل الهيئة في محافظة إدلب.
وخلال عام 2024، قمعت “هيئة تحرير الشام” احتجاجات سلمية خرجت في إدلب ضد حكم الهيئة وزعيمها، ويوثق نشطاء ما يقولون إنه انتهاكات للتنظيم في مناطق سيطرته بالشمال السوري، والتي تشمل خطف واعتقال محامين وكتّاب وصحافيين، وسوء معاملة السجناء، واعتداء على المتظاهرين.
في المقابل، لطالما نفى الجولاني استهداف منتقدي الهيئة أو ارتكاب انتهاكات، وقال في مقابلة مع مراسل شبكة FRONTLINE PBS مارتن سميث عام 2021، إن الأشخاص الذين احتجزتهم الهيئة كانوا “عملاء للنظام” أو “عملاء روس يأتون لوضع الأفخاخ” أو أعضاء في تنظيم “داعش”، واصفاً الاعتقالات بأنها “تستهدف اللصوص والمبتزين”.
وأضاف: “لا يوجد تعذيب. أنا أرفض هذا تماماً.. يمكن لمنظمات حقوق الإنسان أن تأتي وتتفقد السجون أو تقوم بجولة فيها. مؤسساتنا مفتوحة لأي شخص. المنظمات مرحب بها”.
وفي المقابلة نفسها التي كانت الأولى له مع صحافي غربي، أكد الجولاني أن “هيئة تحرير الشام” التي يتزعمها “لا تشكل تهديداً للولايات المتحدة”، واعتبر أن “على الحكومة الأميركية إزالته من قائمة الإرهاب”.
وأضاف أن “تصرفات نظام الأسد تتناسب مع تعريف الإرهاب لأنها تقتل الأبرياء والأطفال والفقراء والنساء”.
وفي مقابلته الحديثة مع شبكة CNN، أقر الجولاني بحدوث بعض الأخطاء أحياناً في التعامل مع الاحتجاجات السلمية، وأشار إلى أنه تم حل تلك الإشكالات، لكنه اعتبر أن هناك ضوابط وقوانين للتظاهر في المناطق الخاضعة لسيطرته في الشمال.
تحولات الجولاني
ظلّت “جبهة النصرة” تتبع “الدولة الإسلامية في العراق” بقيادة أبو بكر البغدادي حتى قرر الأخير في عام 2013 دمج التنظيمين في كيان جديد أطلق عليه “الدولة الإسلامية في العراق والشام” والذي سيعرف لاحقاً باسم “داعش”، إلا أن الجولاني رفض الأمر، وأعلن بعد أيام في تسجيل صوتي مبايعة الزعيم العام لـ”تنظيم القاعدة” أيمن الظواهري الموجود آنذاك في أفغانستان قبل أن يلقي حتفه في غارة أميركية عام 2022.
ومنذ انفصال الجولاني عن “داعش”، ازدادت الخلافات بين التنظيمين، وخاضا صراعات مسلحة في أكثر من منطقة. ومع انحسار قوة البغدادي ازدادت نفوذ “جبهة النصرة”، لكنها ظلّت حتى ذلك الوقت، واحدة من فصائل كثيرة تُقاتل على امتداد الخارطة السورية.
وفي قرار مفاجئ خلال يوليو 2016، أعلن الجولاني فك ارتباط تنظيمه بـ”القاعدة”، وتغيير اسمه إلى “جبهة فتح الشام”، وقال في أول ظهور علني أمام الكاميرا بعد أن ظل لسنوات شخصية غامضة ومتوارية، إن القرار “جاء نزولاً عند رغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا وروسيا في قصفهم وتشريدهم عامة المسلمين في الشام بحجة استهداف جبهة النصرة التابعة لتنظيم قاعدة الجهاد”.
في عام 2017 حاول التنظيم دمج عدد من الفصائل المعارضة ضمن تشكيل جديد باسم “هيئة تحرير الشام”، إلا أن الفصائل انسحبت سريعاً ليبقى التنظيم الأساسي بقيادة الجولاني معتمداً المسمى الجديد، ليتوسع في الفترة اللاحقة ويستقر في شمالي غرب سوريا وتحديداً في مدينة إدلب، حيث استطاع إقصاء وطرد فصائل المعارضة السورية، والقضاء على بعضها، بما فيها كتائب تابعة لـ”الجيش السوري الحر” و”جبهة ثوار سوريا”، لينفرد الجولاني في حكم بعض المناطق، ويفرض نفسه كأحد أقوى أطراف الصراع في سوريا.
“حكومة الإنقاذ”
وخلال السنوات التالية، عملت “هيئة تحرير الشام” بموازاة بناء منظومتها العسكرية، على إدارة مختلف القطاعات في مناطق سيطرتها، حيث أسّست “حكومة الإنقاذ” في نوفمبر 2017، لتتولى مهام الشؤون المدنية، بما في ذلك التعليم والصحة والأمن الداخلي والخدمات العامة.
ولدى دخول الفصائل السورية حلب، ثاني أكبر المدن السورية، في نوفمبر الفائت، ظهر الجولاني في مقطع فيديو، وهو يصدر أوامر عبر الهاتف ويذكر المقاتلين بإرشادات لحماية الناس ويمنعهم من دخول البيوت، وفي بيانات ورسائل متتالية أرسل تطمينات للأقليات في سوريا التي تخشى الجماعات المسلحة.
ودعا أحد البيانات طائفة العلويين في سوريا، إلى النأي بأنفسهم عن الحكومة، وأن يكونوا جزءاً من “سوريا المستقبلية” التي “لا تعترف بالطائفية”.
وفي رسالة إلى المسيحيين بعد السيطرة على حلب، قال الجولاني “إنهم في أمان وممتلكاتهم مصانة”، وحثهم على البقاء في منازلهم ورفض “الحرب النفسية” التي تشنها السلطات.
وكان من اللافت، أن الهيئة، على خلاف نهجها السابق، تبنّت شعارات المعارضة السورية المدنية، سواء باعتماد علم الاستقلال السوري كراية لها، أو بالرموز على الزي الرسمي لعناصرها، لكن هناك من يُشكك بنواياها، ويرى أن ما تبديه من مرونة ورغبة في التغيير ليس إلا خدعة تسعى من خلالها إلى تقديم نفسها كطرف مقبول من المجتمع الدولي والقوى الإقليمي، ومن ناحية أخرى كسب ود وثقة المجتمع السوري المتنوع بأطيافه الدينية والمذهبية والعرقية.
ونقلت وكالة “رويترز”، عن جوشوا لانديز الخبير في الشأن السوري ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، أن “الجولاني أكثر ذكاء من الأسد. غير أدواته وغير مظهره العام وعقد تحالفات جديدة وأطلق رسالته المتوددة” للأقليات.
بينما رأى آرون لوند الباحث في مركز “سينتشوري إنترناشونال” للأبحاث، إن الجولاني لا يزال “على نهج التشدد إلى حد ما”.
وبعد أيام من السيطرة على مدينة حلب، زار الجولاني قلعتها الشهيرة في وضح النهار، والتقط عدداً من الصور، في رسالة ربما أراد منها “إظهار الثقة والنفوذ الذين بات يتمتع بعها”، وربما أبعد من ذلك، إذ رغم تصنيفه من قبل الأميركيين والأمم المتحدة كشخص “إرهابي” إلا أنه لم يتردد في أن يستقل إحدى سيارات الهيئة لمسافة تُقارب الساعة، دون أن يخشى استهدافه بطائرة سورية أو روسية أو حتى أميركية.
ثم بدأ الجولاني فجأة إصدار البيانات موقعة باسمه الحقيقي، أحمد الشرع، وذلك في إطار محاولات إظهار أنه خلع ثوبه السابق كزعيم تنظيم متشدد، وبدأ ينحو أكثر فأكثر نحو “مشروع سوري وطني”.
وفي حين ازدادت شعبية الجولاني لدى مناهضي الحكومة السورية، في ضوء التغيير الذي يبديه والتقدم العسكري الذي تحققه الفصائل التي يقودها، لكن لا يزال القلق والريبة يُسيطران على مشاعر فئات أخرى من السوريين الذين يعتبرونه صاحب مشروع راديكالي يُهدد النسيج الاجتماعي في البلاد التي أرهقتها الحرب، وقطّعت أوصالها وزادت الشرخ بين مواطنيها.
وفي مقابلته الأخيرة مع شبكة CNN الأميركية، رد زعيم “هيئة تحرير الشام” على سؤال “لماذا على السوريين أن يثقوا به وبمزاعمه حول التسامح والتعايش؟ بالقول “أقول للناس لا تحكموا على الكلام، بل احكموا على الأفعال”.
مع ذلك، لم يُوضح الجولاني، باعتباره يحكم 3 محافظات سورية كبيرة ويواصل معركة السيطرة على باقي المناطق، شكل النظام السياسي الذي يتصوره للدولة في حال القضاء على حكومة دمشق، مقتصراً بالقول إنها ستكون “دولة مؤسسات وليست دولة أفراد”.