بعد الهزيمة الثلاثية التي لحقت بالحزب الديمقراطي في انتخابات 2024، الرئاسة والشيوخ والنواب، يحاول الديمقراطيون تجميع شتاتهم، وإعادة تنظيم الصفوف مرة أخرى، استعداداً لانتخابات التجديد النصفي 2026، وانتخابات الرئاسة بعد 4 سنوات.
شهدت توجهات الناخب الأميركي تحولاً كبيراً نحو اليمين، وحسمت نتائج الانتخابات ملفات لم تكن على أولويات الحزب الديمقراطي، أبرزها الاقتصاد، ولا سيما التضخم، بالإضافة إلى بعض العوامل المتعلقة بالهجرة، وقد صنّف 68% من المصوتين في انتخابات 2024 الاقتصاد بأنه “غير جيد” أو “ضعيف”، ورغم أن بعض المؤشرات الاقتصادية الأخرى كانت إيجابية، فإن 75% أشاروا إلى أن التضخم سبب لهم صعوبات كبيرة، وكان ذلك سبب توجههم إلى الجمهوريين.
وكشف ديمقراطيون من مختلف التيارات لـ”الشرق”، عن ضرورة إجراء مراجعات داخل الحزب بعد الخسارة، مشيرين إلى بعض أبرز الوجوه في المرحلة المقبلة التي قد تساعد في إعادة بناء الحزب، والخروج من المأزق الحالي، تحضيراً لخوض الانتخابات القادمة.
أولويات الحزب الديمقراطي
بعد أن فقد الديمقراطيون الأغلبية في مجلس الشيوخ والنواب ومقعد الرئاسة، أشارت أصابع الاتهام إلى تمسك الرئيس جو بايدن بالترشح لدورة ثانية ما أدى إلى ذلك الإخفاق، وإلى ضعف أداء نائبته كامالا هاريس.
لكن، بعد يوم واحد من إجراء الانتخابات، أصدر السيناتور بيرني ساندرز بياناً لاذعاً، اتهم فيه الحزب الديمقراطي بتجاهل أولويات الأميركيين من الطبقة العاملة، التي أظهرت دعماً كبيراً لترمب في الانتخابات.
ولقي هذا الانتقاد استجابة واسعة بين العديد من الديمقراطيين، إذ أشار نائب الرئيس التنفيذي للشؤون العامة في منظمة “الطريق الثالث” اليسارية الوسطية مات بينيت، إلى أن الحزب فقد التواصل مع احتياجات العمال والناخبين غير الجامعيين الذين يُشكلون 70% من قاعدة الناخبين، مفضلين التركيز على قضايا مثل الأطفال المتحولين جنسياً، والديمقراطية، وحقوق الإجهاض، على حساب أولويات الطبقة العاملة.
وفي حديث مع “الشرق”، يرى بينيت أن إعادة تشكيل وبناء الحزب الديمقراطي بعد الهزيمة، تحتاج الكثير من الوقت و”سيكون الطريق طويلاً، ولدينا عامان على الأقل خارج السلطة تماماً، لأن الجمهوريين استولوا على مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وهذا يمنحنا الفرصة للتفكير في الكيفية التي نحتاج بها إلى التغيير”.
وأرجع بينيت، الذي شغل منصب نائب مساعد الرئيس للشؤون الحكومية في البيت الأبيض خلال عهد بيل كلينتون، إخفاق الحزب، إلى عدم قدرته على تقديم نفسه للناخبين الذين لم يلتحقوا بالجامعة، وهو ما يُمثل نحو 70% من عامة الناس، إذ يُشكل الناخبون غير الجامعيين نحو 70% من الناخبين عموماً، وفق قوله.
وأضاف أن هؤلاء الناخبين ينظرون إلى الديمقراطيين على أنهم بعيدون عن حياتهم، وعن الطريقة التي يتحدثون ويفكرون بها، خاصة في ما يتعلق بقضايا مثل الأطفال المتحولين جنسياً، والهجرة، والجريمة، معتبراً أن “هذه هي الطريقة التي يجب أن نغيرها”.
واستدرك بينيت قائلاً إن “هذا لا يعني بالضرورة أننا بحاجة إلى التوقف عن محاولة حماية الشباب المعرضين للخطر، لكنه يعني أننا بحاجة إلى التأكد من أن الأشياء التي نفعلها ونقولها لا تنفر قطاعات ضخمة من الناخبين الأميركيين.
من جانبه، لفت رئيس الحزب الديمقراطي في مقاطعة كولومبيا، تشارلز ويلسون، إلى ضرورة إجراء تقييم ذاتي لفهم أسباب الخسارة، مشدداً خلال حديثه لـ”الشرق”، على أنه “يجب علينا أخذ الوقت الكافي للحديث مع الناخبين، والتعرف على أفضل الطرق للتواصل معهم بشأن القضايا التي تهمهم بشكل أساسي”.
واعترف ويلسون، الذي ينتمي إلى التيار التقدمي في الحزب، أنه كانت هناك مشكلات في السياسات والرسائل التي وصلت إلى الناخبين أو القاعدة وأدت إلى هذه الخسارة، إلا أنه تحفّظ على ذكر تلك “السياسات والرسائل”، واكتفى بالقول “كانت هناك فجوة واضحة بين الناخبين والحزب، ويجب أن نجري تقييماً صادقاً لمعرفة أسباب هذه الفجوة والعمل على معالجتها”.
ورفض السياسي الديمقراطي والمبعوث الخاص للرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون لمنطقة الشرق الأوسط، ريتشارد جودستين، تضخيم خسارة الحزب الديمقراطي، بل قلّل منها ومن وقعها.
وقال جودستين، إن “النتيجة لم تكن دراماتيكية إلى ذلك الحد، ولم يخسر الحزب الديمقراطي بفارق كبير عندما تم احتساب جميع الأصوات”، لافتاً إلى أن “خسارة الحزب الحاكم في الولايات المتحدة لا تنفصل عن خسارة كل الديمقراطيات الكبرى الأخرى”، وأوضح: “هناك 10 دول أجرت انتخابات هذا العام، مثل اليابان، وبريطانيا، وفرنسا، وخسر فيها الحزب الحاكم”.
وتابع: “حاول الحزب الديمقراطي مقاومة تيار لم يكن بمقدوره التغلب عليه، كان التضخم يُمثل مشكلة، لكن في معظمه لم يكن ناتجاً عن أي إجراءات أو سياسات قام بها بايدن، ورغم ذلك لم يكن الرأي العام راضياً عنه ولم يعجبه ذلك”.
ومع ذلك، رأى جودستين، أن الحزب الديمقراطي لم يكن أكثر انتباهاً ووعياً بالقضايا الثقافية، مثل تلك المتعلقة بالمتحولين جنسياً وغيرها، مشدداً على أن الحزب كان يجب أن يتعامل مع بعض الاتهامات بشكل أفضل، وقال: “الحزب يحتاج إلى تحسين تواصله مع الطبقة العاملة والشباب لجذب دعمهم بشكل أكبر، من خلال فهم اهتماماتهم أكثر”.
الحزب الديمقراطي وصراع التيارات
بعد هزيمة هيلاري كلينتون أمام دونالد ترمب في انتخابات 2016، وعلى مدى 8 سنوات، ساد الاعتقاد بأن الحزب الديمقراطي يُمكنه الاعتماد على شخصيات مثل نانسي بيلوسي وتشاك شومر، بالإضافة إلى مجموعة من مستشاري باراك أوباما السابقين وحلفائه، لتوجيه مسار الحزب في المستقبل القريب.
آنذاك، لم تكن الخسارة مؤلمة إلى ذلك الحد، خاصة أن كلينتون فازت بالتصويت الشعبي، الأمر الذي دفع القادة إلى البحث عن طرق قصيرة الأجل تُركز على هزيمة ترمب بشكل خاص في 2020.
أما اليوم، يبدو الوضع مختلفاً، إذ حقّق ترمب فوزاً شاملاً، سواء بالتصويت الشعبي أو المجمع الانتخابي.
ويتحفظ بعض الديمقراطيين على ضرورة إقصاء بعض الوجوه التقليدية والمجموعات الديمقراطية خلال المرحلة المقبلة، من أجل إفساح المجال لغيرهم لقيادة الحزب، قائلين إن الأحزاب التي خرجت من السلطة لا تمتلك زعماء منفردين كما هو الحال مع حزب الرئيس.
في المقابل، توقع بينيت، تنحية بعض القادة عن المشهد بشكل طبيعي، مضيفاً: “من الواضح أن الرئيس سيغادر المشهد، وأعتقد أن جيلاً أصغر سناً يتولى زمام الأمور في مجلس النواب، بقيادة حكيم جيفريز، وهناك مجموعة كاملة من المحافظين، بعضهم انتُخِب حديثاً نسبياً، مثل ويس مور، الذي سيصبح وجه الحزب، على ما يبدو”.
لكن بينيت أشار في نفس الوقت إلى التنوع الأيدولوجي داخل الحزب، معتبراً ذلك “ميزة وعيباً” في نفس الوقت، فهو يمنح الحزب “مرونة في الحركة” لكنه يجعله، أيضاً “بلا صوت موحّد”.
وفي هذا الصدد، أشار ويلسون، إلى أن الحزب خسر كفريق وليس كأفراد “لذلك يتعين علينا أن نُحدد ما الذي نحتاج إليه لنكون أفضل كمنظمة”، لافتاً إلى أنه من الصعب على شخص واحد فرض رؤيته أو توجيه الحزب بالكامل بسبب تنوع الآراء بين أعضائه الذين ينتمون إلى طيف واسع، يشمل اليسار التقدمي ويمين اليسار، وكل ما بينهما.
من جانبه، ذكر جودستين، أن القادة الديمقراطيين التقلييدين، تراجعوا بالفعل عن أدوارهم القيادية قبل عامين في مجلس النواب، مشيراً إلى أن الحزب الديمقراطي يشهد منذ الثمانينيات “صراعاً مستمراً بين الجناح التقدمي والجناح الأكثر اعتدالاً”، معتقداً أن المسألة ليست مسألة تنحي شخصيات معينة، بل ضرورة فتح نقاش حقيقي حول المواقف المختلفة، وإعادة صياغة صورة الحزب بطريقة ما.
وإلى جانب ضرورة تعديل رسالة الحزب من خلال الابتعاد عن المواقف المتطرفة بشأن حق الإجهاض، وحماية المهاجرين غير الموثقين، وحقوق المتحولين جنسياً، أو على الأقل تخفيف حدة الخطاب الذي يدافع عن هذه القضايا، فإنه وفقاً لأستاذ العلوم السياسية وعضو الأكاديمية الفخرية في جامعة أوهايو بول بيك، يجب على الحزب الديمقراطي إعادة التفكير في موقفه، ووضع نفسه في موقع يُمّكنه من الاستفادة من الأخطاء التي سترتكبها إدارة ترمب والجمهوريين خلال الفترة القادمة.
وفي حديثه لـ”الشرق”، اعتبر بيك، أن “تلك الأخطاء ستشمل تجاوزات محتملة تتعلق بالتعريفات الجمركية، وتعيينات في فريق ترمب، والترحيلات، والانتقام من خصومه”.
وأضاف: “نحن نشهد بعض الفرص بالفعل مع الاختيارات المثيرة للجدل، مثل اختيار مات جايتز لمنصب المدعي العام، وروبرت كينيدي الابن لمنصب وزير الصحة والخدمات الإنسانية”.
أبرز الوجوه الديمقراطية
يضم الحزب الديمقراطي مجموعة كبيرة من الشخصيات الجديدة التي يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها سترسم ملامح قادة الحزب المؤثرين خلال المرحلة القادمة، ولفت الديمقراطيون الذين تحدثوا لـ”الشرق” إلى دورهم الفعال في السنوات القادمة بإعادة ضبط وصياغة رسائل الحزب.
وبينما رجّح الديمقراطيون استبعاد كل من رون كلاين، الذي شغل منصب كبير موظفي البيت الأبيض في إدارة بايدن منذ 2021 حتى أوائل 2023، ورام إيمانويل، الديمقراطي البارز الذي شغل منصب كبير موظفي البيت الأبيض في إدارة باراك أوباما، من أن أداء دور محوري في تحديد التوجه المستقبلي للحزب في هذه المرحلة، وذلك رغم توليهما في السابق مسؤولية البحث عن أفضل الطرق لهزيمة ترمب.
طرح جودستين وبينيت، عدداً من الأسماء الواعدة لقيادة تلك المرحلة، من بينهم، حاكم نيوجيرسي، فيل ميرفي، وهو من المرشحين المحتملين لمنصب رئيس اللجنة الوطنية الديمقراطية القادم، وكذلك وحاكم كاليفورنيا، جافين نيوسوم، وحاكم إلينوي، جي بي بريتزكر، وحاكمة ميشيجان، جريتشن ويتمر، وحاكم بنسلفانيا، جوش شابيرو، وهذا الأخير كان ضمن المرشحين لمنصب نائب الرئيس في حملة هاريس قبل أن يقع الاختيار على تيم والز.
أما على مستوى التيار التقدمي الذي يميل ناحية السيناتور بيرني ساندرز، والمُنتظر منهم لعب أدواراً فعالة في المرحلة المقبلة لاستمالة الناخبين وتجديد صورة الحزب، فتبرز في صفوفه بعض الأسماء الواعدة، مثل النائبة ألكسندريا أوساكيو كورتيز من نيويورك، ورو خانا من كاليفورنيا، والعضوين في مجلس الشيوخ إليزابيث وارن من ماساتشوستس، وجيف ميركلي من ولاية أوريجون.
مع ذلك، اتفق الديمقراطيون الذين تحدثوا مع “الشرق”، على أن الوقت ما زال مبكراً جداً لتحديد القيادة داخل الحزب، وقال ويلسون: “أعتقد أنه من السابق لأوانه تحديد الأسماء بشكل دقيق.. أعتقد مرة أخرى، أننا نحتاج إلى الجلوس كمجموعة ومراجعة أخطائنا بصدق، وأرى أننا بحاجة ملحة لإعادة الاتصال مع الناخبين”.
ترشيح امرأة للرئاسة
ينتظر الديمقراطيون انتخابات التجديد النصفي في عام 2026، لتعويض خسارتهم الكبيرة، ويبدو أنهم قد يحققون مكاسب، خاصة مع الفرضية التي تقول إن الحزب الحاكم يخسر، عادة، مقاعد بالكونجرس في التجديد النصفي، ولكن أمل الديمقراطيون في النهوض مرة أخرى واستعادة الرئاسة يبدو ملحاً أكثر بعد هزيمتهم على يد ترمب.
ويُرجح الديمقراطيون، أن من بين الوجوه الجديدة التي ستبرز خلال المرحلة المقبلة سيكون بعضهم قابلاً للترشح للرئاسة في انتخابات 2028، لكن بينيت حذّر من الوقت المبكر لتحديد أسماء المرشحين، قائلاً إنه إذا طُرح هذا السؤال في عام 1988، مباشرة بعد الانتخابات، فلن يقول أحد بيل كلينتون “عندما أصبح رئيسي القديم بيل كلينتون مرشحاً في عام 1992”.
وتوقّع بينيت، أن “يأتي شخص ما من العدم بالطريقة التي جاء بها كلينتون”، لكنه استدرك قائلاً إن الأسماء البارزة لإدارة حملة رئاسية، حتى الآن، هم الحاكم شابيرو في بنسلفانيا، والحاكمة ويتمر في ميشيجان، والحاكم ويستمور في ماريلاند، والحاكم نيوسوم في كاليفورنيا، والحاكم بريتزكر في إلينوي.
ويتفق جودستين مع بينيت، في احتمالية أن يظهر شخص غير مُتوقع يمكن أن يوحد الحزب، كما فعل كلينتون عام 1992، قائلاً إنه “بعد خسارة الديمقراطيين 3 انتخابات رئاسية في الثمانينيات، جاء بل كلينتون محققاً النصر”، متوقعاً أن تكون الانتخابات الجديدة في 2026 جيدة للديمقراطيين، مضيفاً: “أعتقد أن عام 2028 سيكون فرصة جيدة جداً أيضاً لنا”.
مع ذلك، أكد جودستين، أنه من الصعب أن يُكرر الديمقراطيون مرة أخرى تجربة ترشيح امرأة للرئاسة، موضحاً: “أكره أن أقول ذلك، لكن أعتقد أن الدرس المستفاد من أعوام 2020 و2016 و2024، هو أن الجمهور الأميركي قد لا يكون مستعداً بعد لرئاسة امرأة، ولم يكن جذاباً لهم ترشيح امرأة سوداء”.
واتفق الناشط السياسي وعضو الحزب الديمقراطي والمحامي الحقوقي ألين أور مع جودستين، في أن طبيعة هاريس كامرأة كانت هي السبب الرئيسي في خسارتها.
وقال أور: “لقد فشلت الأحزاب السياسية الأميركية باستمرار في اختيار امرأة للترشح للرئاسة، لا سيما لو كانت ملونة، لذلك فإن هذا يتحدث أكثر قليلاً عن قيادة المرأة، وكيف نفكر في القيادات النسائية في البلاد، وأعتقد أن الحزب سيكون أكثر حذراً بعد ذلك في ترشيح النساء”.