كشف الباحث والعازف العراقي حسين سالم، في ندوة حول الموسيقى في بلاد الرافدين، نظّمتها دارة الفنون في عمّان في تسعينيات القرن الماضي، عن نصّ غنائي عراقي اعتبره “أوّل أغنية حب في التاريخ”، تولّت الأستاذة في جامعة شيكاجو، البروفسورة آن كيلمر، ترجمته وغناؤه وعزفه على القيثارة السومرية.
وإذا ما حاولنا مقارنة ذلك النصّ الغنائي بما آلت إليه الأغنية في العراق، فثمّة فرق جوهري بين المزاجين، على الرغم من تباعد الفترة الزمنية. يقول النصّ:
“أيها العريس حبيب أنت إلى قلبي
وسيم أنت جميل حلو كالعسل
أيها الأسد حبيب أنت إلى قلبي
اغف في بيتنا حتى الفجر”..
أحزان عراقية
امتازت الأغنية العراقية الأولى بأنها أغنية بهجة وفرح، فيما الأغنية العراقية في القرن الأخير، كانت حزناً خالصاً يتباهى به البعض، ويرغبون في العودة إليه وترسيخه، ولا شيء أدلّ على ذلك أكثر من بائع “الكاسيت” الشهير في بلاد الشام، الذي صنّف الأغنيات العراقية كلها تحت اسم “أحزان عراقية”.
ويا للمفارقة الموجعة، حين تباع الأحزان العراقية على الأرصفة بسعر واحد، وحين يصبح الحزن مادّة فنية يعاد الاشتغال عليها مراراً.
وبصرف النظر عن أسباب هذا الحزن المبثوث في الأغنيات العراقية، وهي أسباب توقّف عندها المختصون كثيراً، فأرجعها بعضهم إلى الطقس الحار، وفيضان دجلة وجفافه، ورأى آخرون أنها نتيجة الحروب الطويلة التي عرفتها هذه البقعة، والدم الذي تحوّل بفعل الزمن إلى نفط وأغنيات، نفط لم يجرّ سوى الويلات، وأغنيات لم تكن إلا تجسيداً لتلك الويلات، ولعل المضحك المبكي أن نقول إن أغنياتنا حزينة، لأننا بلد نفطي.
الأغنية السبعينية مزاج جنوبي
تتنوّع الأغنية العراقية بتنوّع تضاريس ذلك البلد، فهناك الجبال والصحارى والبساتين، وهذا أمر مفهوم، لكن ثمّة مزاج من الغناء طغى على الأمزجة الأخرى، كما لو أنه المزاج الوحيد، وهذا ما نتحدث عنه.
شكّل العهد الجمهوري الذي دشّنه عبد الكريم قاسم، تحوّلاً وتغييراً لم تكن الأغنية العراقية بمعزل عنه، سادت الأغنية الحزينة الجنوبية، وقطعت الصلة بما قبلها. والمتابع يلاحظ الفرق بين لون الأغنيات مع بداية الإذاعة العراقية، مثل أغنيات ناظم الغزالي وسليمة مراد وعفيفة إسكندر، وبين ما رسّخته الأغنية التي بدأت تستحوذ مطلع الستينيات على المشهد العراقي.
ويعتبر الباحث والعازف ستّار الناصر، “أن الأغنية السبعينية هي معيار للجودة لأسباب أهمها، أنها تناولت القصيدة في الشعر الشعبي، وتركت رتابة الشعر الغنائي، الذي يعتمد مذهباً وكوبليهات محددة”.
ورأى أن “هذا التجديد على مستوى اللحن، احتاج إلى غرفة موسيقية، تضمّ أكثر من كمان وتشيلو وشبكة من الإيقاعات، ولهذا صار للتدوين الموسيقي ضرورة، فتطوّرت نوعية الموسيقى أيضاً، وقراءة النوتة الموسيقية، وبالتالي ظهر ما يُعرف بالمقدمة الموسيقية بأقصر مما نعرفه، وأداء أكثر دراية”.
أضاف: “بوسعنا اعتبار أغنية المكير لياس خضر، التي لحّنها الفنان الخالد كمال السيد، وتمكّن من إيجاد خطاب موسيغنائي جديد، مستفيداً من الانفراج السياسي، في السبعينيات.. فتاريخها يشير إلى أولويتها (نهاية 1968)، ثم تبعه آخرون منهم طالب القرغولي، محسن فرحان، محمد جواد أموري، محمد عبد المحسن، كوكب حمزة، جعفر حسن، سامي كمال، طارق الشبلي، طالب غالي”.
تسبّبت الأغنية الجنوبية، بشكل أو بآخر، وعلى الرغم من جمالها وشجنها وعذوبة كلماتها، بتحويل الغناء العراقي إلى النواح المرير، الذي يمكن أن يقود مستمعيه إلى مزاج مرير.
وحول إشكالية المصطلح، رأى العازف عبد الله عبد الكريم البصري، “أنه ليس من الدقّة اعتبار الأغنية السبعينية معياراً وحيداً مطلقاً لجودة الغناء العراقي، إلا إذا شخّصنا هذا المعيار بالأغنية المتحوّلة، المنفلتة عن جوهر الهوية الغنائية التاريخي. (مع مراعاة تعدد هويات الموسيغنائية العراقية وفقاً لجغرافيات الوطن وثقافاته الشعبية المتعددة).”
أضاف: “برزت الأغنية السبعينية وشكّلت تحوّلاً- منقطعاً نوعاً ما – عن الهويات الموسيغنائية العراقية، واعتبرها البعض حينها طفرة غير مبنية على صيرورة وتغيير متراكم”.
وأشار إلى أن ذلك “كان على أيدي ملحنين، أبرزهم كمال السيد. وسلكت هذه الأغنية مساراً لحنياً غير معهود في الغناء العراقي، لجهة بناء المقدّمات الموسيقية والفواصل اللحنية، وتعددية الموازين الإيقاعية، فضلاً عن التوزيع اللحني. كما أتاحت الأشعار التي تعرّضت للحن في تلك الفترة، والتي صيغت على قوالب غنائية مبتكرة للملحن، الخروج عن السياقات السائدة”.
يختم البصري: “لذلك لا يمكننا اعتبار الأغنية السبعينية مرجعية جوهرية معيارية للأغنية العراقية الجيدة، إنما نسق غنائي جديد مبتكر، خاضع للمؤثّرات اللحنية العربية، التي شقّها في تلك الفترة موسيقيون مصريون، ومطابق لمعظم معايير الأغنية الجيدة، لا سيما من حيث توافق اللحن مع مقتضى النص الشعري”.
حزن على الكارثة قبل حدوثها
حملت الأغنية الجنوبية إذن اسم “السبعينية”، ذلك المصطلح الذي يعبّر عن عدد كبير من الفنانين وعدد أكبر من الأغاني، المزاج الذي هزم الأمزجة الأخرى، ولم تعد هناك أغنية بغدادية تمثّل الحال، باعتبارها أغنية العاصمة الرسمية، إذ ستفرض الأغنية السبعينية نفسها حتى نهاية الثمانينات، لتحل أغنية شبابية أقل حزناً وأسرع إيقاعاً.
وكان الحصار الجائر من أبرز دوافع ذلك الحزن الفطري، خلاف الحزن السبعيني، الذي كان حزناً رؤيوياً عميقاً، حزن على الكارثة قبل حدوثها.
أغنية التسعينيات.. تأثير الحصار
عبّرت أغنية التسعينيات عن الفقر والحزن بطريقة مباشرة، وخالية من الرموز، ويمكن اعتبار أغنية قاسم السلطان “الما عنده منين يجيب”، أو أغنية كريم منصور “تسأليني على حالي”، مثالين بارزين على أثر الحصار في الأغنية العراقية، وهو أثر واقعي على الشاعر والملحّن والمؤدّي، أثر لا يمكن الانفلات منه أبداً.
ومع اقتراب نهاية عهد صدام حسين، بدأ الحزن يخف ويتلاشى في الأغنية، لتتلاشى معه أشباح الأغنية السبعينية، ويقلّ تأثيرها، وما إن جاءت اللحظة التي سقط معها تمثال الرئيس الراحل، حتى فتح العراقيون أعينهم، ولا أقول آذانهم فحسب، على أغنية من نوع جديد لم تكن مألوفة وشائعة بهذه الكثافة.
أغنية البرتقالة
هل هي تشويه للأغنية العراقية أم تأسيس جديد لها؟
عام 2004، بثّت التلفزيونات أغنية جديدة بعنوان “البرتقالة”، لم يكن من المتوقع أن تصبح ثيمة تأسيسية لما بعدها من أغانٍ، بالرغم من أنها كانت اقتباساً من فولكلور عراقي قديم.
من الناحية الفنية، لجأ علاء سعد إلى عدد من الراقصات لإنجاح أغنيته، لتصبح أغنية مرئية لا مسموعة، وهو الأمر الذي دفع مطربين آخرين لتقليده، وهكذا توالى عدد من الأغنيات متنافسة على جلب الراقصات، لجذب الجمهور الواسع.
أثارت الأغنية الجدل، ووصف البعض صاحبها حتى بعد رحيله، بأنه “مؤسّس الأغنية العراقية الهابطة”، ورأى الفنان العراقي سعدون جابر، أن سعد علاء، قام بتشويه أغنية “البرتقالة”.
وفي حوار صحفي قال سعدون جابر: “إن أغنية “البرتقالة” هي أغنية فولكلورية قديمة لمسعود العمارتلي، وهي أغنية جميلة، لكن أعيد غناؤها وإخراجها بشكل غير لائق”.
فيما كان للفنان الكبير كاظم الساهر رأي مغاير، حين سُئل عنها، فأجاب “بأنه لا يجدها سيئة أو سخيفة كما يقول البعض، بل هي أغنية جميلة وجيدة”.
ازدهار الأغنية العراقية
اتخذت الأغنية العراقية في السنوات الأخيرة طابعاً مختلفاً، وجذبت انتباه حتى الجماهير العربية، طابع فرح ورقص وإيقاع مبهج، وحصلت بعض أغنيات الفنانين الجدد على المشاهدات الأعلى، مثل أغنيات محمود التركي، وسيف نبيل.
ولا يمكن اعتبار أغنياتهم على بساطتها، بأنها تشويه للأغنية العراقية، بقدر ما يمكن اعتبارها تمثيلاً للعصر الذي يعيشونه، وانفلاتاً من الأثر السبعيني، بل انقلاباً عليه. كما أن تلك الأغنيات الراقصة الخفيفة والسريعة في الإيقاع والزمن، يطرب لها من يطرب، بما أن الطرب والأغنية مفاهيم لا يتفق عليها اثنان على الإطلاق.
وللعازف والباحث الموسيقي ستار الناصر، رأي جازم بأغنية اليوم، إذ صرّح “بأنها ليست سوى تجارب فقيرة جداً من معاني الجمال، ولعلها تقليد للأغاني الهندية خاصة، بعد طغيان آلة الأوركن وبقية الآلات الكهربائية”.
خلال ربع قرن، بعد سقوط النظام البعثي ومجيء الحكومات البرلمانية، لم يبق من الحزن العراقي سوى أثر طفيف، لا يتوقف عنده طويلاً، كما كانت تفعله الأغنية السبعينية.
ويرى البصري أنه من غير المنصف اعتبار الأغنية الجديدة هابطة بصورة مطلقة، لكنها تبدو هجينة من الناحية الهوياتية. إذ تجرّدت عن هويات الموسيغنائية العراقية، وهذا لم يطرأ على الغناء السبعيني الذي لم يتجرد تماماً من الحسّ اللحني – الشعري – البيئي المحلي، مثلما جرى في الأغنية المعاصرة”.
الأغنية الجديدة برأيه، “تسلك مساراً مختلفاً عمّا تحمله الذاكرة من مسارات سابقة للغناء العراقي، وهي في الواقع انعكاس للواقع بمختلف جوانبه، وتشكّل تفاعلاً متبادلاً مع الذائقة العامة، بين تأثير وتأثّر”.
ومرة أخرى العودة إلى البدء:
” أيها العريس هلا حملتني معك إلى المخدع
أيها العريس اغف في بيتنا حتى الفجر
ما دمت تحبني”..
إن أوّل نصّ عراقي غنائي لم يكن حزيناً، وآخر نص عراقي لن يكون حزيناً أيضاً.