مع اقتراب لبنان من دخول عامه الثالث دون رئيس للجمهورية، يواجه البلد واحدة من أكثر فتراته تحدياً منذ نهاية الحرب الأهلية. لا يزال قصر بعبدا الرئاسي شاغراً منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في أكتوبر 2022.
ويزيد من حدة الأزمة وجود حكومة تصريف أعمال تفتقر إلى موافقة البرلمان الحالي، ما يثير أسئلة ملحة حول من يملك السلطة للتفاوض باسم لبنان في وقت تتصاعد فيه التوترات الإقليمية.
غياب رأس الدولة، الذي يمثل دستورياً جميع اللبنانيين ويجسد الحضور الماروني المسيحي في الحكم، ترك فراغاً قيادياً . هذا الفراغ يبدو واضحاً بشكل خاص مع تصاعد الحوارات السياسية مع الأطراف الدولية، والتي تركز ليس فقط على وقف الحرب بل أيضاً على تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701.
ويتطلب ضمان الالتزام بهذا القرار درجة من التوافق السياسي الذي يبدو بعيد المنال دون رئاسة فاعلة ومع وجود حكومة تصريف أعمال، وانقسام سياسي حاد في البلاد يرسم ملامح علاقات الأحزاب والطوائف اللبنانية.
قيادة منقسمة تتقدم للأمام؟
في ظل الفراغ الحالي، تولى رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يمثل حركة أمل (أحد فصيلين شيعيين في النظام الطائفي اللبناني)، دوراً أكثر حيوية. مفوضاً من قبل حزب الله للتفاوض باسمه، ويعمل الرئيس بري جنباً إلى جنب مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي يمثل – وفق التقاليد السياسية – المجتمع السني في لبنان.
ومع ذلك، يواصل برلمانيون وسياسيون وقانونيون التشكيك في شرعية جهودهما كمفاوضين مخولين باسم لبنان قادرين على إنجاز اتفاق يحظى بالشرعية وبضمان التوافق الداخلي على حد سواء.
جورج عقيص، عضو كتلة “الجمهورية القوية” النيابية المرتبطة بحزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، انتقد الوضع الحالي. وقال بنبرة متشائمة: “لا توجد دولة في لبنان، هناك مجرد سعاة بريد، أبرزهم الرئيس بري، الذي ينقل التوجيهات الإيرانية”.
ويقول عقيص أن رئيس الوزراء ميقاتي يمثل “ما تبقى من شرعية منقوصة”، إذ يرأس حكومة تصريف أعمال لم تحصل على ثقة البرلمان الحالي. وأضاف: “يحاول ممارسة مسؤولياته بناءً على أساس هش”.
دعوات للالتزام الدستوري
وليد الأشقر، عضو المجلس السياسي في “التيار الوطني الحر” بقيادة جبران باسيل، شكك في شرعية المفاوضات الجارية. وقال لـ”الشرق”: “يجب أن نلجأ إلى الدستور، الذي ينص على أن الرئيس هو من يتفاوض باسم لبنان مع الخارج”. وأضاف: “لا يحق لرئيس مجلس النواب ولا لرئيس الحكومة التفاوض باسم لبنان، خاصة مع حكومة تصريف أعمال”.
ويعتبر الأشقر أن الحل الأمثل هو انتخاب رئيس “قبل فوات الأوان”. وفي غياب الرئيس، يجادل الأشقر بأن بري وميقاتي يفتقران إلى السلطة الدستورية لتمثيل لبنان في المفاوضات.
انقسامات سياسية وتحديات ملحة
يزداد المشهد السياسي تعقيداً بسبب الانقسامات العميقة. ودافع النائب آلان عون، الذي انفصل عن “التيار الوطني الحر”، عن جهود بري وميقاتي، قائلاً: “ميقاتي يشارك في هذه المفاوضات كرئيس للحكومة، وبري كرئيس لمجلس النواب، كلاهما يمثل الدولة اللبنانية”. وأضاف:”نأسف لغياب رئيس الجمهورية في هذه المعادلة، لكنه واقع يجب أن نتعامل معه”.
يصر جورج عقيص من “القوات اللبنانية”، على فصل انتخاب الرئيس عن المفاوضات لوقف الحرب، مفضلاً انتخاب الرئيس أولاً. وفي المقابل، يعتقد آلان عون أن الأولوية المباشرة هي وقف الحرب. موضحاً أن: “لا أحد يعترض على تفاوض بري وميقاتي، إنهما يمثلان ما تبقى من الدولة”. وأضاف: “إشراك حزب الله عبر الرئيس بري ضروري لأنه طرف على الأرض ولا يمكن استبعاده”.
خلافات في تفسير الدستور
أثار غياب الرئيس جدلاً حول التفسيرات الدستورية بشأن من يمكنه التفاوض باسم البلاد. المحامي الدستوري سعيد مالك قال لـ”الشرق”، إنه بينما تتولى الحكومة مجتمعة صلاحيات الرئيس في غيابه، فإن بعض الصلاحيات—مثل التفاوض وتوقيع المعاهدات—خاصة بالرئيس ولا يمكن نقلها.
إلا أن بول مرقص، رئيس مؤسسة “جوستيسيا” القانونية، يختلف مع هذا الرأي، قائلاً: “لا يمكن لأحد أن يتحدث باسم الدولة اللبنانية إلا الرئيس”. وأضاف: “يتحدث رئيس الحكومة باسم الحكومة عندما تقرر، ولم تقرر أي شيء بخصوص المفاوضات لوقف إطلاق النار”.
جمود انتخابي وسط تصاعد التوترات
تعرقلت الجهود لانتخاب رئيس جديد بسبب الجمود السياسي. ودعا الرئيس بري إلى 12 جلسة برلمانية لانتخاب رئيس، لكن لم يحقق أي منها النصاب المطلوب.
وأعلنت أحزاب مثل “القوات اللبنانية” وحزب “الكتائب” أنها لن تشارك إذا كان المرشح من “معسكر الممانعة”، في إشارة إلى شخصيات مثل سليمان فرنجية، حليف “حزب الله” وحركة “أمل”.
اعترف النائب محمد خواجة، من كتلة حركة أمل “التنمية والتحرير”، بالإحباط لكنه نقل المسؤولية إلى فصائل أخرى. وقال: “في الوضع السياسي الراهن، لا يستطيع طرف واحد جمع الأصوات الكافية لانتخاب مرشحه الخاص وحده، التوافق ضروري”. وأضاف: “لهذا دعا الرئيس بري إلى حوار بين الكتل السياسية”.
تأثيرات إقليمية ووساطة دولية
يأتي فراغ القيادة الدستورية في وقت يواجه لبنان ضغوطاً إقليمية كبيرة. يتهم النقاد إيران بممارسة نفوذ غير مبرر من خلال دعمها لـ”حزب الله”. مصطفى علوش، وهو نائب سابق من “تيار المستقبل”، قال: “تستخدم إيران لبنان كجزء من استراتيجيتها الإقليمية، وتوظفه لتحقيق مصالحها. حزب الله مجبر على اتباع توجيهات إيران لأنه ممول بالكامل منها”.
رغم هذه التعقيدات، تستمر الجهود الدولية للوساطة، إذ زار المبعوث الأميركي آموس هوكستين بيروت مؤخراً، على الرغم من أن مصادر أشارت إلى أن الزيارة لم تسفر عن نتائج. في الوقت نفسه، التقى رئيس الوزراء ميقاتي بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في لندن، حيث اتفقا على ضرورة إيجاد حل دبلوماسي وتنفيذ القرار الأممي 1701.
مسار غير مؤكد للمستقبل
وبينما يواجه لبنان فراغاً في القيادة ومعطيات دستورية معقدة، تظل قدرته على تجاوز هذه المحنة غير مؤكدة. فغياب الرئيس وغياب حكومة ذات صلاحيات كاملة لا يعيقان الحوكمة الداخلية فحسب، بل يعقدان مشاركة لبنان مع المجتمع الدولي وذلك في وقت حرج جداً.
يؤكد الجمود السياسي على الحاجة الملحة للتوافق والقيادة الفعالة. ومع استمرار التأثيرات الإقليمية وتعميق الانقسامات الداخلية، يبقى السؤال الأساسي: من يمكنه التفاوض شرعاً باسم لبنان في هذه الأوقات الخطرة؟
ما هو اتفاق الطائف؟
اتفاق الطائف، المعروف رسميا باسم “وثيقة الوفاق الوطني”، تم توقيعه سبتمبر 1989 في الطائف بالًمملكة العربية السعودية من قبل نواب وقادة سياسيين لبنانيين.
أنهى الاتفاق الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاماً وأعاد هيكلة النظام السياسي لضمان تقاسم السلطة بالتساوي بين الطوائف الدينية في البلاد.
نقل الاتفاق صلاحيات تنفيذية كبيرة من رئاسة الجمهورية المسيحية المارونية إلى مجلس الوزراء والبرلمان، مع تعزيز هوية لبنان كدولة عربية.
ما هو القرار الأممي 1701
اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار 1701 في 11 أغسطس 2006، داعياً إلى “وقف الأعمال العدائية بين حزب الله وإسرائيل” بعد حرب مدمرة استمرت 34 يوماً.
الزم القرار الحكومة اللبنانية ببسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، وطالب بنزع سلاح جميع الجماعات المسلحة باستثناء قوات الدولة اللبنانية.
كما فوّض قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل” لمراقبة وقف إطلاق النار ودعم القوات المسلحة اللبنانية في جنوب لبنان.
ما هو القرار الأممي 1559؟
صدر القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي في 2 سبتمبر 2004، (أشهر بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق للحريري).
وحث القرار على انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان وحل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية.
استهدف القرار في البداية إنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان، (والذي تم لاحقاً في عام 2005).
كما دعا إلى نزع سلاح “حزب الله” والجماعات الفلسطينية المسلحة.
لا يزال القرار نقطة خلاف في السياسة اللبنانية، مع تفسيرات متباينة بين الفصائل المختلفة.