تتصدر سوريا قائمة دول العالم من حيث حالات الاختفاء القسري التي لم يتم التوصل إلى معرفة مصيرها، إذ وثّق تقرير حديث لفريق لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا، أكثر من 130 ألف حالة اختفاء قسري لا تزال عالقة، إلى جانب وجود أكثر من 200 موقع يُشتبه في كونه مقبرة جماعية.
وقال مفوضون في اللجنة، التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2011، لـ”الشرق”، إنهم يعملون على إنشاء شبكة من نقاط التواصل في مختلف المناطق السورية، بهدف ضمان تدفق المعلومات وحماية الشهود والضحايا.
وأشاروا إلى أنهم يعملون ضمن مسار يشمل “كشف الحقيقة”، و”المساءلة القانونية”، و”جبر الضرر”، و”ضمانات عدم التكرار”، معتبرين أن وجود اللجنة في دمشق “يفتح آفاقاً جديدة للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية”.
وتمكنت اللجنة، بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، من زيارة الأراضي السورية لأول مرة منذ عام 2011.
هذه الزيارة، التي طال انتظارها، تأتي في ظل تحولات جذرية تشهدها البلاد، وتطرح تساؤلات عميقة بشأن مستقبل ملف حقوق الإنسان والمساءلة في سوريا الجديدة. فمنذ سقوط الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، تمكنت لجنة تقصي الحقائق من زيارة سوريا مرتين.
الزيارة الأولى هدفت لتقييم الوضع والوقوف على الواقع السياسي والإنساني، وتناولت فتح قنوات اتصال مع السلطات السورية الجديدة، إضافة إلى زيارة بعض المواقع الحساسة، بهدف تقييم مدى القدرة على الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالانتهاكات التي وقعت خلال سنوات الحرب.
وقادت الزيارة الثانية للجنة المفوض هاني المجالي، وجرت في التاسع من يناير الماضي، وتخللتها اجتماعات مع مسؤولين من مختلف التوجهات، إضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني. وركزت الزيارة على فتح حوار بناء بين الأطراف المختلفة، بهدف بحث سبل التعاون المستقبلي، وإيجاد أرضية مشتركة للمرحلة المقبلة.
ورغم التفاؤل الكبير بالزيارتين، إلا أن شكل العلاقة مع الإدارة الجديدة في دمشق لم يحسم بشكل كلي بعد، لا سيما أن قنوات الاتصال بالحكومة لم تنجز بشكل نهائي، إلا أن اللجنة تطمح لإطلاق حريتها في العمل على كافة الأراضي السورية دون أي عوائق.
العدالة الشاملة والتحديات الإنسانية
منذ عام 2011، عملت لجنة التحقيق الدولية من خارج الحدود السورية، معتمدة على شبكة واسعة من المصادر والشهود لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان.
وبحسب تقرير اللجنة الصادر في عام 2022، تم توثيق أكثر من 130 ألف حالة اعتقال تعسفي وإخفاء قسري، إضافة إلى آلاف الحالات من التعذيب والقتل خارج نطاق القانون.
وقال هاني المجالي رداً على سؤال لـ”الشرق” خلال لقاء مع عدد من الصحافيين، إن “عملنا على مدى السنوات الماضية كان بمثابة معركة مستمرة للحفاظ على الذاكرة وتوثيق الحقيقة. اليوم، مع دخولنا إلى دمشق، نحن أمام فرصة تاريخية للوصول مباشرة إلى مصادر المعلومات والأدلة التي ظلت محجوبة عنا لسنوات”.
وأعرب المجالي، عن أمله “في أن تكون التقارير السابقة مفيدة للعمليات المستقبلية، ليس فقط في مجال المساءلة، بل أيضاً في البحث عن الحقيقة والتعويضات والإصلاحات المؤسسية”.
وعن التعاون القضائي الدولي فيما يختص بالمحاسبة على انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، أوضح المفوض، أن اللجنة عملت “حتى الآن مع هيئات قضائية ذات مصداقية خارج سوريا، وشهدنا تقدماً ملحوظاً في قضايا الولاية القضائية الدولية والوطنية”.
وعبّر عن تطلعه لإجراء “إصلاحات قضائية من شأنها أن تخلق قضاءً مستقلاً ذا مصداقية، فوجود اللجنة في دمشق يفتح آفاقاً جديدة للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، رغم أن طبيعة هذا التعاون لا تزال قيد النقاش”.
وأضاف: “مفهوم العدالة يتجاوز المساءلة الجنائية. نحن نتحدث عن عدالة شاملة تمتد إلى ملفات المحتجزين والمفقودين والمختفين قسراً، وتشمل قضايا أساسية مثل الوثائق المدنية وحالة النازحين وإمكانية العودة، لدينا كنز من المعلومات في أرشيف لجنة التحقيق، ونحن مستعدون للمساعدة في توظيف هذه المعلومات لخدمة العدالة”.
وأشار إلى أن اللجنة تؤمن بـ”أهمية الحوار الوطني الذي يجمع كل الأطراف، وقد يكون السبيل الوحيد نحو مستقبل مستقر وعادل لسوريا. نحن كلجنة مستعدون للمساهمة في هذا المسار بكل ما نملك من خبرات وموارد”.
“هيئة تحرير الشام”.. لا تصنيفات سياسية
وبشأن تصنيف الأمم المتحدة لـ”هيئة تحرير الشام”، التي قادت عملية إسقاط الأسد، كـ”منظمة إرهابية”، وهو أمر ورد ذكره بشكل متكرر في تقارير اللجنة السابقة، قال المجالي، إنه “ليس من صلاحيات اللجنة التعامل مع التصنيف السياسي للهيئة أي غيرها”.
وتابع: “لم يتم التشاور معنا أو إشراكنا في ذلك التصنيف، هذه قرارات سياسية نراقبها لكننا نحاول التركيز على من يرتكب الانتهاكات، إرهابي أم لا، لا يهمنا حقاً، طالما أننا نركز على حماية المدنيين، ومعالجة هذه المخاوف، سواء كانت جهة فاعلة تابعة لدولة أم كانت خارج إطار الدولة”.
وأوضح المجالي، أن “تحقيق العدالة الانتقالية يتطلب مقاربة شاملة”، وأردف: “نحن نعمل على 4 مسارات متوازية: كشف الحقيقة، المساءلة القانونية، جبر الضرر، وضمانات عدم التكرار”.
وتستند اللجنة في عملها إلى توصيات تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول العدالة الانتقالية الصادر عام 2023، والذي يرى أن “نجاح مسار العدالة الانتقالية يتطلب مشاركة فعالة من جميع أطراف النزاع، وضمان حقوق الضحايا في معرفة الحقيقة، والحصول على التعويض”.
ولفتت لين ويلشمان، العضوة في لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا، إلى أنهم يعملون على “إنشاء شبكة من نقاط الاتصال في مختلف المناطق السورية. وهدفنا هو ضمان تدفق المعلومات وحماية الشهود والضحايا”.
وبحسب تقرير مفوضية حقوق الإنسان الصادر عام 2024، أصبح التنسيق بين مختلف آليات الأمم المتحدة في سوريا أكثر فعالية، كما حصل “تحسن ملحوظ في تبادل المعلومات وتنسيق الجهود بين مختلف الوكالات العاملة في الملف السوري”.
“طمس معالم الانتهاكات”
وخلال زيارته لسجن صيدنايا الشهير في ريف دمشق وعدد من مراكز الاحتجاز السابقة، وجد فريق اللجنة أدلة على “محاولات منهجية لطمس معالم الانتهاكات”.
وأفاد المجالي الذي كان على رأس الوفد: “رأينا بأعيننا آثار التدمير المتعمد للوثائق، لكن ما يبعث على الأمل هو أن كمية كبيرة من الأدلة نجت من التدمير، ونأمل أن يكون لهذه الوثائق المفقودة نسخاً مخبأة في مكان”.
وأشارت تقارير الأمم المتحدة السابقة، إلى وجود شبكة معقدة من مراكز الاحتجاز السرية في سوريا. ووثقت لجنة التحقيق الدولية في تقرير لها عام 2023، وجود أكثر من 89 موقعاً سرياً للاحتجاز، منها 28 موقعاً تم تأكيد استخدامها للتعذيب المنهجي.
جيوش أجنبية وتحديات أمنية
وفي سؤال لـ”الشرق” عن أبرز تعقيدات المشهد الحالي في سوريا، أجابت ويلشمان: “نحن نتعامل مع خريطة نفوذ تتغير بشكل مستمر. في تقاريرنا السابقة، رصدنا نشاط 5 إلى 6 جيوش أجنبية في الأراضي والأجواء السورية، واليوم نشهد تحولات جديدة في موازين القوى، وهذا يطرح أعباء جديدة”.
من جهته، اعتبر المجالي، أن “إحدى الخيارات التي تطرح في الاجتماعات رفيعة المستوى أمام الفصائل في سوريا اليوم هي الحل والضم إلى الجيش، وهي مهمة بالغة الصعوبة، خصوصاً أن لهذه الفصائل نفوذاً عسكرياً متجذراً في بعض المناطق، وعدم إيجاد حلول لها قد يعني الانزلاق إلى صراع مرة أخرى وهذا أمر لا يتمناه أحد”.
وبعد نحو شهرين على سقوط نظام الأسد، أعلنت الإدارة السورية الجديدة حل جميع الفصائل المسلحة، وذلك خلال مؤتمر في العاصمة دمشق، بمشاركة عشرات القادة العسكريين.
ويرى تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر في نوفمبر 2024، أن تداخل مناطق النفوذ وتعدد القوى المسيطرة يشكل تحدياً كبيراً أمام جهود حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة، مضيفاً: “تفتت السيطرة على الأراضي السورية يخلق فراغات أمنية تسمح باستمرار الانتهاكات”.
وعن أزمة العميقة في القدرات الدفاعية السورية، ترى ويلشمان، أن الإدارة الجديدة “بالكاد لديها معدات عسكرية متبقية لأن إسرائيل قصفت كل شيء بعد توليها مهامها مباشرة. تدمير البنية التحتية العسكرية السورية بفعل الضربات الاسرائيلية خلق واقعاً جديداً”.
وأردفت: “الدولة التي لا تستطيع حماية حدودها، تجد صعوبة بالغة في حماية حقوق مواطنيها، والحكومة الجديدة تواجه صعوبات كبيرة تتعلق بحماية حقوق الإنسان، وسط استمرار النزاع، وغياب الاستقرار الأمني يجعل السكان عرضة لانتهاكات خطيرة”.
وفي ظل التحولات الجيوسياسية المستمرة، وعلامات الاستفهام الكبيرة حول الجماعات المسلحة التي لا تزال تحتفظ بالأسلحة وربما تشكل خطراً محتملاً، أشارت ويلشمان، إلى أن “هناك قوى خارجية لها أيضاً الكثير من الثقل والقوة، وفي المرحلة الراهنة سيكون من الصعب جداً أن نتمكن من القيام بأكثر من المراقبة والتقييم والنظر في كيفية تقديم المساعدة في دفع الأمور إلى الأمام”.
معتقلون ومختفيون قسراً
ويشكل ملف المعتقلين والمختفيين قسراً أحد أبرز التحديات التي تواجه اللجنة، وقال المجالي، إن “لدينا قاعدة بيانات تضم عشرات الآلاف من الأسماء. وكل اسم يمثل مأساة إنسانية وعائلة تنتظر معرفة مصير أحد أفرادها”.
وتحدثت تقارير للفريق المعني بحالات الاختفاء القسري، عن سوريا قائلةً، إنها تتصدر قائمة الدول من حيث عدد حالات الاختفاء القسري غير المحلولة، حيث تم توثيق أكثر من 100 ألف حالة لا تزال عالقة.
وذكر المجالي، أن اللجنة رصدت “مجالات عديدة مثيرة للقلق، وسنرى كيف يمكننا إيصال هذا إلى الإدارة الجديدة، لكننا لم نصل إلى هناك بعد، لأننا ما زلنا في طور إنشاء قنوات الاتصال وعقد الاجتماعات”.
وأردف: “قد نكتشف أماكن اعتقال جديدة لم نكن نعرف عنها شيئاً، وتعرفون أننا زرنا عدداً من المقابر الجماعية وأخرى نود زيارتها، هذه مهمة تتقدم إلى الأمام الآن، ومن الجيد أن لدى الأمم المتحدة آلية أخرى تركز على المفقودين، وستكون أيضاً على الأرض للقيام بذلك”.
ويشكل ملف المقابر الجماعية تحدياً خاصاً للجنة التي اكتشفت العديد من المواقع التي تحتاج إلى “تحقيق عاجل”، بحسب المجالي الذي اعتبر أن “الوقت عامل حاسم في الحفاظ على الأدلة وتوثيق الجرائم”.
وتطرقت تقارير الطب الشرعي الدولية، إلى أن العديد من المقابر الجماعية في سوريا تحتوي على أدلة قد تكون حاسمة في إثبات جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ووثق تقرير لجنة الخبراء الدوليين، في ديسمبر 2024، وجود أكثر من 200 موقع يُشتبه في كونه مقبرة جماعية. وتحاول اللجنة العمل عن قرب مع المجتمع المدني السوري والعائلات، وتطمح لإيجاد قنوات للتعاون بين الإدارة الجديدة والناشطين المدنيون.
ويعتقد المجالي، أنه “منذ اليوم الأول كانت الرسالة هي أنه سيكون هناك جهد لإجراء حوار وطني وحكومة أكثر شمولاً، ولكن حتى يحدث كل ذلك، لدينا سلطة موجودة، وهي ما سنتعامل معه”.
ورغم حجم التحديات، يبدي المفوضون في لجنة تقصي الحقائق تفاؤلاً حذراً إزاء المستقبل. ووصف المجالي، الفرصة الحالية في سوريا بأنها “تاريخية لتحقيق العدالة”، فيما اعتبرت ويلشمان، أن “المرحلة المقبلة حاسمة في مسار العدالة السورية”.
وينتظر أن تقدم لجنة التحقيق الخاصة بسوريا تقريرها الدوري أمام مجلس حقوق الانسان في دورته الـ58 المنتظرة في 24 فبراير الجاري.