تعتزم الجزائر إعادة طرح ملف الاستعمار الفرنسي أمام البرلمان، تمهيداً لإصدار قانون بتجريمه، في ظل تصاعد التوتر الدبلوماسي بين الجزائر وباريس، وبعد رفض فرنسا الاعتراف الصريح بجرائم الاستعمار ضد الجزائريين.
واعتبر رئيس المجلس الشعبي الوطني الجزائري (البرلمان)، إبراهيم بو غالي، أن الوقت حان لطرح القانون على البرلمان، مبرراً ذلك بما وصفه بالضربات المتكررة من الجانب الفرنسي لتشويه صورة الجزائر.
وقال بو غالي، في تصريحات لإحدى القنوات المحلية، إن الجزائر لن تبقى في موقع الدفاع فقط، وأن مشروع القانون ينبغي طرحه باسم جميع الجزائريين، باعتباره مطلباً شعبياً وليس مجرد مبادرة حزبية.
وتشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية العديد من النقاط الخلافية، أبرزها ملف الذاكرة الذي يعد أكثر القضايا حساسية بين البلدين، إذ تطالب الجزائر باعتراف صريح واعتذار رسمي عن جرائم الاستعمار (1830 – 1962)، خاصة التفجيرات النووية في منطقتي رقان، وإن إكر بصحراء الجزائر، التي خلّفت إشعاعات لا تزال تؤثر على السكان والبيئة، وكذلك جرائم التعذيب والقتل الجماعي والمجازر الكبرى، ومنها مجازر 8 مايو 1945، بالإضافة إلى نهب الأرشيف والممتلكات الثقافية، إذ تحتفظ فرنسا بعدد كبير من الوثائق والمخطوطات والرفات البشرية لمقاومين جزائريين في متحف الإنسان بالعاصمة باريس.
وبدأت التفجيرات النووية الفرنسية بالجزائر، في 13 فبراير 1960، بعد إصدار السلطات الفرنسية مرسوم عام 1957 يسمح بتخصيص مساحة 108 آلاف كيلومتر مربع على بُعد 40 كيلومتر من مدينة رقان جنوب الجزائري لإنشاء مركز عسكري صحراوي.
وفي عام 2016، أفاد رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث (فورام)، مصطفى خياطي، في تصريحات نقلتها صحيفة “الشروق” بأن فرنسا قامت بما مجموعه 17 تجربة نووية خلال الفترة ما بين 1960 و1966، ما أودى بحياة 42 ألف جزائري، وإصابة آلاف الآخرين بإشعاعات نووية، علاوة على الأضرار الكبيرة التي مست البيئة والسكان، فيما لم تشر مصادر فرنسية لذلك.
وتعدُ فرنسا من أكبر الإمبراطوريات الاستعمارية في التاريخ، إذ استعمرت 14 دولة إفريقية، من بينها الجزائر، وتونس، والمغرب، والسنغال، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينا فاسو، والكاميرون، وجمهورية الكونغو.
وزاد التوتر في العلاقات بين الجزائر وفرنسا، منذ إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في نهاية يونيو الماضي، دعم موقف المغرب بشأن إقليم الصحراء.
وردت الجزائر على الموقف الفرنسي بسحب سفيرها، وخفض التمثيل الدبلوماسي في فرنسا، ووصفت الدعم الفرنسي بأنه “إعلان تأييد قطعي وصريح للواقع الاستعماري المفروض في إقليم الصحراء الغربية”.
في عام 2006، قدم مجموعة من النواب، لأول مرة، مشروع قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي كرد فعل على إقرار البرلمان الفرنسي “قانون تمجيد الاستعمار” عام 2005.
وأشار بو غالي إلى أن مجموعة من النواب قدموا بالفعل مشروع قانون لتجريم الاستعمار، لكنه يتضمن بعض الملاحظات التي تستوجب المراجعة.
واعتبر النائب البرلماني زكرياء بلخير، أن تصريح رئيس المجلس الشعبي الوطني، بشأن فتح المجال أمام مناقشة وإصدار القانون، يمثل رسالة واضحة بشأن موقف الجزائر من العلاقات مع فرنسا، والذي بات يتسم بصرامة وشدة أكبر في التعامل.
وتوقع بلخير، في تصريحات لـ “الشرق”، أن يكون مشروع القانون من بين توصيات الملتقى الذي يعقده المجلس الشعبي الوطني، في 13 فبراير الجاري، بمدينة رقان التابعة لولاية أدرار جنوبي البلاد، وهي المدينة الي شهدت واحدة من أقوى التجارب النووية الفرنسية.
وقال إن الظروف السياسية والاقتصادية الحالية في الجزائر، باتت مواتية لإقرار القانون، خاصة في ظل “تعافي البلاد على مختلف الأصعدة، وفي المقابل تواجه فرنسا عزلة دولية متزايدة، لا سيما بعد طردها من عدة دول إفريقية مؤخراً”، على حد تعبيره.
بلخير أضاف أن المبادرات التشريعية السابقة لتجريم الاستعمار لم تُكلل بالنجاح، بسبب ظروف سياسية وأخرى اقتصادية، كان من أبرزها اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي الموقعة عام 2005.
وأشار، إلى أنه بعد الحراك الشعبي الذي شهدتهُ الجزائر في عام 2019 والذي أطاح بنظام حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، بدأت الجزائر عهداً جديداً في علاقاتها مع فرنسا، وأصبحت السلطة الجزائرية أكثر تمسكاً بمبدأ الندية والسيادة الكاملة.
واعتبر بلخير، أنّ ما سماه “التجاوزات الفرنسية المستمرة، خاصة بعد اختطاف اليمين المتطرف القرار الفرنسي، دفعت الجزائر إلى قناعة تامة بأن فرنسا ليست مستعدة للتخلص من إرثها الاستعماري، ما جعلها تتبنى نهجاً أكثر صرامة في التعامل مع باريس”.
عضو المجلس الشعبي الوطني، وحيد سيد الشيخ، اعتبر أنه حان الوقت لتجريم الاستعمار الفرنسي من خلال أكبر هيئة تشريعية في الجزائر.
وربط الشيخ، في تصريحات لـ “الشرق”، بين تحركات البرلمان الجزائري لإصدار القانون، والحملات التي تقودها الحكومة الفرنسية ضد الجزائر مؤخراً والتي لا تخلو من هجوم، وتدخل في الشأن الداخلي الجزائري، ومضايقات وسوء معاملة للجزائريين.
أبرز بنود مشروع القانون
يتكون مشروع قانون “تجريم الاستعمار” الذي طرحه نواب في نوفمبر 2021، من 54 مادة، تغطي مختلف الجوانب السياسية والقانونية والمسؤولية التاريخية لفرنسا عن جرائم الإبادة والتهجير ونهب ثروات الجزائر.
وبحسب المسودة التي اطلعت عليها “الشرق”، يصنف مشروع القانون، جرائم الاستعمار، ضمن أخطر الجرائم الدولية، مثل “العدوان، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى الجرائم المستمرة كالتجارب النووية، وزرع الألغام، ونهب الأرشيف الوطني”.
وينص مشروع القانون على عدم سقوط هذه الجرائم بالتقادم أو العفو، ما يفتح الباب أمام الملاحقة القضائية للمسؤولين عنها، ويؤكد حق الجزائر في المطالبة بالتعويضات عن الأضرار الناجمة عنها، سواء للدولة أو للأفراد المتضررين.
ويشترط مشروع القانون، اعتراف فرنسا واعتذارها الرسمي عن جرائمها في الجزائر، كأساس للعلاقات المستقبلية بين البلدين، كما يُلزم المشروع السلطات الفرنسية بإعادة الممتلكات المنهوبة، وتسليم خرائط الألغام، وتعويض ضحايا التجارب النووية.
ويتطرق مشروع القانون إلى ضرورة حماية الذاكرة الوطنية، بإعادة الأرشيف الوطني، وإنشاء مؤسسات تاريخية لتخليد المقاومة الجزائرية، إلى جانب إجراءات لحماية الهوية الوطنية، مثل تصحيح الألقاب التي شوهها الاستعمار.
ويفرض مشروع القانون، غرامة على أي جزائري يمجد الاستعمار الفرنسي بأي وسيلة من وسائل التعبير.
تدويل القضية
ومن المقرر أن يبحث الاتحاد الإفريقي، ملف تجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر، في فبراير الجاري، وفق تصريحات وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، خلال مؤتمر صحافي، في 30 ديسمبر الماضي 2024.
وقال عطّاف، في المؤتمر، إن “هذا الملف لن يبقى بين الجزائر وباريس، بل سيتحول إلى قضية دولية للتركيز على تجريم الاستعمار، ووصفه بما يستحق من أوصاف مثل العنصرية، والإبادة، والجريمة ضد الإنسانية”.
وعلق النائب زكرياء بلخير، على محاولات تدويل القضية بقوله إنّ “الجزائر ليست وحدها من عانت من ويلات الاستعمار الفرنسي، بل القارة الإفريقية كلها”، مشيراً إلى أن العلاقات الإفريقية الفرنسية تتأثر بالعلاقة بين فرنسا والجزائر، متوقعاً إقدام دول إفريقية أخرى على الخطوة ذاتها بعد إقرار الجزائر هذا القانون.