بينما تواجه إيران عقوبات دولية مستمرة تهدف إلى الحدّ من صادراتها النفطية، برزت شبكة معقدة من الترتيبات والصفقات التجارية وعمليات التهريب المشتبه بها في العراق المجاور، لتشكّل شريان حياة حيوي لصادرات طهران من النفط.
على الأقل هكذا تبدو الاتهامات التي تخلص إليها العديد من الدراسات والتصريحات من داخل العراق وخارجه. وزادت المخاوف العراقية من الاتهامات بارتباطات الحكومة والمجموعات المرتبطة بها، بإيران وسياساتها، بعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق، إذ تتعالى أصوات في واشنطن وتل أبيب تحذر بغداد من تشكيل غطاء لطهران، فيما تتصاعد التهديدات الأميركية لطهران عقب انهيار حلفائها في المنطقة.
بحسب خبراء وتقارير استقصائية ومسؤولين غربيين، سمحت ترتيبات متفق عليها بين طهران وبغداد، بوصول النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية بشهادات منشأ عراقية.
وتعالت أصوات عراقية تحذر من أن هذه السياسة ربما تُعرّض الاستقرار السياسي في العراق ومصداقيته الدولية للخطر.
على مدى السنوات الأخيرة، منحت الولايات المتحدة إعفاءات تسمح للعراق بالاستمرار في استيراد الغاز الطبيعي والكهرباء من إيران، ما يعكس مدى اعتماد بغداد على الإمدادات الإيرانية. ورغم أنّ الغاز الطبيعي أقل خضوعاً للعقوبات مقارنة بالنفط الخام، يقول محللون إنّ الإيرادات المستمرة من الغاز والمنتجات المرتبطة به، “تساعد طهران على تعويض بعض الخسائر الناجمة عن القيود الدولية”.
خلط النفط الإيراني
ويرى خبراء في قطاع الطاقة، أنّ عمق هذا الارتباط تجلّى عندما خفّضت إيران مؤخراً صادراتها من الغاز إلى العراق من 50 مليون متر مكعب يومياً إلى 7 ملايين فقط، متذرعةً بأعمال صيانة، ما أدّى إلى فقدان بغداد أكثر من 5500 ميجاوات من الكهرباء. وأثار ذلك تساؤلات بشأن مدى تبعية العراق لإمدادات الطاقة الإيرانية، والقدرة التفاوضية التي تمتلكها طهران في هذا الملف.
غير أنّ الموضوع لا يقتصر على الإمدادات المُعلنة فقط. فقد أشارت تحقيقات صحافية، من بينها تقارير لـ”رويترز” و”بلومبرغ” ومنظمة “جلوبال ويتنس”، فضلاً عن تحليلات “إس آند بي جلوبال بلاتس” ومراكز أبحاث إقليمية، إلى دلائل على قيام إيران بخلط نفطها مع النفط العراقي، ومن ثمّ تصديره وكأنه نفط عراقي أصيل. وبهذا الأسلوب، يصبح من الصعب على الجهات الرقابية الدولية تعقّب أصل الشحنات، ما يوفر مساراً موازياً لإيران لتجاوز العقوبات.
وفي تقرير استقصائي نُشرته “رويترز” مؤخراً في أوائل ديسمبر الجاري، نقلت الوكالة عن 5 مصادر وثلاثة تقارير استخباراتية غربية تقديرات تشير إلى أنّ ما بين 500 ألف و750 ألف طن من زيت الوقود الثقيل (ما يعادل 3.4 إلى 5 ملايين برميل) يُحوَّل شهرياً عن مساره الشرعي في العراق، ويتم تصديره غالباً إلى دول آسيوية.
وتتراوح العائدات السنوية لهذه العمليات “غير المشروعة” وفقاً لتقديرات مختلفة بين مليار و3 مليارات دولار، والمستفيد الأكبر منها أطراف مرتبطة بطهران وفق التقارير ذاتها.
ويؤكد محللون ومسؤولون أنّ “هذه العمليات لا يمكن أن تحدث دون تواطؤ جماعات مسلحة لها نفوذ سياسي وعسكري في العراق”. وتتهم تقارير استخباراتية جماعة “عصائب أهل الحق”، التي تتمتع بمقاعد برلمانية ومواقع أمنية، بممارسة نفوذ على مؤسسات وشركات مملوكة للدولة، ما يتيح لها الحصول على منتجات نفطية مدعومة تُهرّب لاحقاً إلى الأسواق العالمية لتحقق أرباحاً طائلة.
نفي عراقي
في المقابل، تنفي السلطات العراقية رسمياً هذه الاتهامات بشكل قاطع. ففي تصريحات لـ”الشرق”، نفى محمد النجار، المسؤول في وزارة النفط العراقية، صحة الادعاءات الخاصة بخلط النفط الإيراني بالنفط العراقي وتصديره على أنه عراقي، مشيراً إلى أن مبيعات العراق النفطية التي تتم عبر شركة تسويق النفط “سومو” تخضع لمعايير عالمية صارمة وإشراف دولي عبر شركات مستقلة متخصصة في التحقق والفحص.
وشدد النجار، في تصريحاته لـ”الشرق” على أنه “لا توجد طرق مختصرة. جميع العقود شفافة، والكميات المحملة تطابق الكميات المحددة. إنها عملية دقيقة لا يمكن التلاعب بها”.
رغم ذلك، يرسم خبراء نفطيون صورة أكثر تعقيداً. فقد أشار الخبير النفطي نبيل المرسومي في تصريحات لـ”الشرق”، إلى أن نحو 220 ألف برميل من النفط العراقي قد تُهرّب يومياً من حقول كردستان نحو إيران وتركيا، وهو حجم دفع منظمة “أوبك” لإبداء القلق، إذ اعتبرته “يشوّه صورة الإنتاج الرسمي للعراق وحصصه المقررة”.
ولا تقتصر المخاطر على الجانب الاقتصادي، إذ يحذّر محللون من أن يُنظَر إلى العراق دولياً بوصفه متواطئاً مع إيران في الالتفاف على العقوبات. وفي ظل توقعات بتبنّي واشنطن موقفاً أكثر تشدداً مستقبلاً، قد تتعرض بغداد لمزيد من التدقيق وربما لعقوبات محتملة.
ويخشى مسؤولون وخبراء عراقيون، من أن يؤثر ذلك في علاقات البلاد مع شركائها الغربيين، كما قد يزعزع ثقة المستثمرين ويقوّض وصول العراق إلى الأسواق المالية العالمية.
أكثر من مجرد نفط
من جانبه، قال إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير السياسي في بغداد، إن ما يحدث “ليس مجرد مسألة نفط”، مضيفاً أنّ المنطقة تشهد تحولات جيوسياسية عميقة، وأن توافر أدلة على مساعدة العراق لإيران في تخطي العقوبات قد يجعل بغداد في مرمى التدقيق الدولي.
واعتبر الشمري، في تصريحاته لـ”الشرق”، أن الموازنة الدقيقة بين طهران وواشنطن “أصبحت أكثر هشاشة”، وأن استمرار العراق في هذا النهج قد يضع سيادته واستقراره على المحك.
ويواجه قادة العراق خيارات صعبة. فمع توقعات بارتفاع الطلب على الكهرباء إلى قرابة 50 ألف ميجاوات خلال العقد المقبل، وعدم تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز قريباً، تظل الحاجة ملحّة للإمدادات الإيرانية. أما البدائل مثل استيراد الغاز من تركمانستان أو قطر أو تطوير حقول الغاز المحلية، فتصطدم بمعوقات لوجستية وأمنية وسياسية. وتخضع حقول مثل “كورمور” في إقليم كردستان لهجمات متكررة تعرقل مساعي العراق لتطوير إنتاجه المحلي من الغاز.
وفي غياب إصلاحات عاجلة وآليات رقابة أكثر صرامة، إلى جانب ترسيخ الشفافية في إدارة قطاع الطاقة، يحذّر محللون ومسؤولون من تزايد الضغوط على العراق.
وبينما يشحذ المجتمع الدولي تركيزه على تنفيذ العقوبات ضد إيران، قد يصبح مصير بغداد مرهوناً بمدى قدرته على الحفاظ على سمعته كمصدر نفطي موثوق.