أيد قادة أوروبيون خلال القمة، التي عقدوها في بروكسل هذا الأسبوع، خططاً لتعزيز الإنفاق الدفاعي والاستمرار في “الوقوف بثبات” إلى جانب أوكرانيا، في وقت يسعى فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى التوصل لاتفاقية سلام تنهي حربها مع روسيا، بينما تخرج الولايات المتحدة مستفيدة من صفقة المعادن الأوكرانية الثمينة.
وفي ظل أجواء أوروبية تؤكد على تفضيل الاستمرار في الاعتماد على “الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من أجل (ضمان) أمن” القارة، وفق ما عبّر عنه رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف، في تصريحات خاصة لـ”الشرق”، عقدت القمة الأوروبية وسط تساؤلات بشأن مدى إمكانية اعتماد القارة على واشنطن في الدفاع عنها، في ظل الأجواء التي يشيعها الرئيس ترمب، وتنم عن تراجع انخراط بلاده في الانغماس في الدفاع مع القارة الأوروبية والناتو، رغم تصاعد المخاوف من أن روسيا قد تشن هجوماً على إحدى الدول الأوروبية، وهو ما أثير خلال نقاشات في أروقة الاتحاد الأوروبي.
لكن رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، الذي ترأس الاجتماع، أكد، خلال مؤتمر صحافي حضرته “الشرق”، أن الاتحاد الأوروبي أثبت في هذه القمة أنه “قادر على مواجهة التحديات، إذ نعمل على بناء منظومة دفاعية أوروبية قوية ونقف إلى جانب أوكرانيا بكل ثبات”.
وأشاد قادة الاتحاد الأوروبي بمقترحات المفوضية الأوروبية، الهادفة إلى منح الدول الأعضاء مزيداً من المرونة المالية في الإنفاق الدفاعي إلى جانب خطة لاقتراض مشترك بما يصل إلى 150 مليار يورو (160 مليار دولار) لدعم الحكومات الأوروبية في تعزيز قدراتها العسكرية.
وفي بيان مشترك، اتفقت الدول الأعضاء السبع والعشرون على دعوة وزرائها لدراسة هذه المقترحات بشكل عاجل، وبحث سبل تنفيذها في أقرب وقت ممكن.
اعتماد أوروبا على أميركا
وقال رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف، في حديث خاص لـ”الشرق”، إن “بناء مفهوم أوروبي موحد دون مشاركة الولايات المتحدة يعد أمراً بالغ الصعوبة، نظراً لأن إنشاء دفاع أوروبي مستقل يحتاج إلى الكثير من الموارد المالية، والكثير من الوقت”.
وأوضح شوف أن العديد من الدول الأوروبية “تفضل الاعتماد على حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتعزيز العلاقات عبر الأطلسي، ونريد أن نعتمد على الولايات المتحدة وعلى الناتو من أجل (ضمان) أمن أوروبا”.
وعن كيفية إصلاح العلاقات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، قال شوف إن “(الرئيس الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي أقدم على خطوة كبيرة من خلال إرساله رسالة (إلى الولايات المتحدة)، وأعتقد أن الأميركيين تلقوها بشكل جيد، وإذا لم أكن مخطئاً سيشهد الأسبوع المقبل لقاءات بين الجانبين”.
وفي هذا السياق، أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي مايك والتز، الجمعة، أن الولايات المتحدة ستجري “دبلوماسية مكوكية بين روسيا وأوكرانيا، وسنستمر في استخدام الأوراق الرابحة التي لدينا لإحضار الطرفين إلى طاولة السلام”.
وأضاف، في كلمة للصحافيين في المكتب البيضاوي بحضور الرئيس ترمب، أن وفداً أميركياً سيتوجه إلى السعودية الأسبوع المقبل من أجل محادثات السلام بين موسكو وكييف، مشيراً إلى أنه سيلتقي مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، بالوفد الأوكراني في السعودية “لإعادة المحادثات إلى مسارها الصحيح، وتثبيت وقف إطلاق النار وإحلال السلام”.
وأشار إلى أن ترمب كان “منفتحاً وشفافاً جداً” مع جميع الأطراف، فيما يتعلق بوقف الأعمال العدائية.
وكان الرئيس الأميركي أعلن، الجمعة، أنه “يفكر بجدية” في فرض رسوم جمركية وعقوبات واسعة النطاق على روسيا من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار، وإبرام اتفاق سلام مع أوكرانيا، وتتحدث تقارير اعلامية غربية أن موسكو مستعدة لمناقشة “هدنة مؤقتة” في كييف شريطة إحراز تقدم باتجاه الوصول لـ”تسوية نهائية سلمية”.
المجر خارج السرب الأوروبي
وباستثناء المجر، وقعت 26 دولة أوروبية على بيان أوكرانيا، الذي يرسم خطوطاً حمراء لمحادثات السلام المستقبلية، ويدعو إلى انضمام كييف إلى الاتحاد، ويتعهد بتقديم مساعدات عسكرية مستقبلية من دون أهداف محددة.
هذا البيان رفضه رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، حليف الرئيس الأميركي، يعمل أيضاً على تعزيز العلاقات مع موسكو.
وجاء في البيان، الذي وقعه 26 زعيماً، أن تحقيق “السلام من خلال القوة، يتطلّب أن تكون أوكرانيا في أقوى موقف ممكن، مع اعتبار القدرات العسكرية والدفاعية القوية لأوكرانيا مكوناً أساسياً”.
وأضاف البيان: “يظل الاتحاد الأوروبي ملتزماً، بالتنسيق مع الشركاء والحلفاء ذوي التفكير المماثل، بتقديم الدعم السياسي والمالي والاقتصادي والإنساني والعسكري والدبلوماسي المعزز لأوكرانيا”.
من جانبه، قال المحلل السياسي والمختص في الشؤون الأوروبية جورج سيوريابولس، في حديث مع “الشرق”، إن أوروبا لم تكن لتتمكن من بناء مفهوم دفاعي مستقل بالكامل دون دعم الولايات المتحدة.
وأوضح سيوريابولس أن الاتحاد الأوروبي لم يُصمَم ككيان دفاعي موحد، بل كمنظومة لتعزيز الرخاء الاقتصادي ودمج الأسواق الداخلية وتطوير قوة تجارية موثوقة. ورغم تحقيقه تقدماً كبيراً في تنسيق السياسات الدفاعية، لا يزال يفتقر إلى التماسك والموارد اللازمة للاعتماد على نفسه عسكرياً، ما يجعل حلف الناتو، المدعوم بالقوة العسكرية الأميركية، الركيزة الأساسية للأمن الأوروبي، خاصة في ظل تباين القدرات العسكرية والإرادة السياسية بين الدول الأعضاء.
وأشار سيوريابولس إلى أن قادة الاتحاد الأوروبي اتخذوا، خلال اجتماع المجلس الأوروبي في مارس 2025، خطوة مهمة نحو الاستقلال الاستراتيجي في مجال الدفاع، من خلال الالتزام بزيادة الإنفاق العسكري، وتعزيز المشاريع المشتركة، وتطوير القدرات الصناعية الدفاعية.
وأعرب عن اعتقاده بأنه “إذا استمر هذا الزخم في السنوات المقبلة، قد يتمكن الاتحاد الأوروبي من تنفيذ عمليات دفاعية مشتركة؛ لا سيما في مهام حفظ السلام. ومع ذلك، لا يبدو أن أي دولة عضو مستعدة للتخلي عن مظلة الناتو، حيث ينبع السعي إلى استراتيجية بديلة من حالة عدم اليقين بشأن توجهات الولايات المتحدة في ظل قيادة ترمب، الذي يتبنى سياسة خارجية قائمة على المصالح المتبادلة”.
غموض نوايا ترمب وبوتين
ورغم أن تداعيات هذا النهج على علاقات واشنطن بحلفائها في الناتو لا تزال غير واضحة، إلا أن سيوريابولس شدد على ضرورة استعداد الاتحاد الأوروبي لمواجهة التحديات، دون السعي إلى انفصال كامل عن الحلف.
وأضاف أن الغزو الروسي لأوكرانيا “شكّل جرس إنذار لأوروبا بشأن التهديد الذي يمثله الدب الروسي”.
وأشار سيوريابولس إلى أنه “في الوقت الراهن، لا يزال الغموض يكتنف نوايا موسكو، وما إذا كان نظام (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين يسعى لإعادة بناء إمبراطورية أم أن طموحاته تتوقف عند أوكرانيا، وهو ما يزيد من حالة الإحباط وعدم اليقين في المشهد السياسي الأوروبي”.
ورجح أنه “بعد انتهاء الحرب، سيظل من غير الواضح من سيبقى في دائرة الحلفاء أو الخصوم، وما إذا كانت هناك أي توجهات وحدوية جديدة”، معتبراً أن “هذه العوامل ستحدد وتيرة الاستعدادات الدفاعية الأوروبية، سواء داخل حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي”.
ولفت سيوريابولس إلى أن تطوير الصناعة الدفاعية الأوروبية، القائم على الابتكار وقابلية تشغيل الأنظمة البينية، يمكن أن يكون محركاً للنمو الاقتصادي، عبر جذب الاستثمارات وخلق فرص عمل جديدة، وهو ما تحتاجه القارة الأوروبية بشدة في المرحلة المقبلة.
وقدمت واشنطن أكثر من 40% من المساعدات العسكرية لأوكرانيا العام الماضي، وفقاً لحلف الناتو، وبعض هذه المساعدات لا تستطيع أوروبا تعويضها بسهولة. ولا يزال بعض الزعماء يأملون، علناً على الأقل، في إمكانية إقناع واشنطن بالعودة إلى صفوف الحلف.
وتواجه كييف الآن قطع المساعدات العسكرية الأميركية وتبادل المعلومات الاستخباراتية، في الوقت الذي تزيد فيه إدارة ترمب الضغوط على زيلينسكي لإبرام صفقة المعادن معها، وكذلك صفقة سلام سريع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقبل القمة الأوروبية، التي وُصفت بـ”الحاسمة” في بروكسل، أعرب دبلوماسيون من دول أوروبية تدعم أوكرانيا بقوة، عن أملهم في أن يسفر الاجتماع عن التزامات جديدة لوضع كييف في موقف أقوى.
الردع النووي؟
في إشارة إلى خطورة الوضع، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هامش القمة الاوروبية أن بلاده منفتحة على مناقشة توسيع نطاق الحماية النووية، التي توفرها شركائها الأوروبيين.
وتُسهم القوات النووية الفرنسية في تعزيز الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا من خلال نشر طائرات قتالية ذات قدرات نووية، ما يمثل علامة على التضامن السياسي الأوروبي، ويعقّد الحسابات الاستراتيجية لموسكو.
كما أن الوجود المرئي لهذه الطائرات في أوروبا الشرقية قد يشكل عامل ردع يمنع روسيا من مهاجمة الدول التي تشعر بالقلق بشأن مدى التزام الحماية المنصوص عليها في بعض الاتفاقيات.
ويأتي ذلك في ظل تنامي المخاوف من احتمال انسحاب الولايات المتحدة، أو تقليص وجودها الأمني في أوروبا، وهي الأزمة الجيوسياسية التي دفعت القادة الأوروبيين إلى تكثيف جهودهم الدبلوماسية بشكل غير مسبوق خلال الأسبوعين الماضيين.
وبعد انتهاء الاجتماعات القمة الأوروبية في بروكسل، بات واضحاً أن الأولوية القصوى للقادة الأوروبيين هي الحفاظ على الضمانات الأمنية الأميركية، بينما تراجع الاهتمام بتعزيز موقف أوكرانيا، سواء على ساحة المعركة أو في المفاوضات، إلى مرتبة ثانوية، وهو ما عكسته المدة الزمنية التي خُصصت لمناقشة قضية الدفاع مقارنةً بأوكرانيا.
واستحوذت مناقشات الدفاع عن أوروبا دون الحماية الأميركية على معظم الساعات العشر من الاجتماعات، حيث شهدت خلافات بين القادة بشأن آليات تمويل الخطة الدفاعية البالغة 800 مليار يورو، والنسبة التي ينبغي استثمارها في مصادر أوروبية مقابل المصادر الخارجية.
وفيما اعتبر الكرملين، على لسان الناطق باسمه، ديمتري بيسكوف، الجمعة، أن من “المستحيل تجاهل وجود الأسلحة النووية في أوروبا خلال هذا الحوار، خاصة في ضوء تصريحات ماكرون” عن المظلة النووية.
وأكد بيسكوف أن بلاده “تراقب عن كثب مناقشات الاتحاد الأوروبي بشأن العسكرة”، معتبراً أن “عسكرة الاتحاد الأوروبي تجري ضد روسيا، وهو ما يثير قلق موسكو”.
الإنفاق المزعج
من جانبه، قال رئيس الوزراء الكرواتي أندريه بلينكوفيتش، رداً على أسئلة لـ”الشرق” بشأن استعداد بلاده لرفع الانفاق الدفاع، إنهم أنفقوا “ما يقارب 2% من الناتج المحلي الإجمالي على تعزيز القدرات العسكرية و30% (منها) على العصرنة (modernization) في البلاد، بما معناه متطلبات الناتو قد تم الوفاء بها (من جانب بلاده)”.
وجدد بلينكوفيتش التعهد “برفع النسبة على الإنفاق العسكري إلى أكثر من 2.5% بحلول عام 2027، ونحو 40% منها على عصرنة التقنيات وتحويلها” من الأنظمة العسكرية الشرقية إلى التكامل مع التكنولوجيا العسكرية الغربية، مما سيسهم في تعزيز الكفاءة والقدرات الدفاعية.
وأثار تحوّل الموقف الأميركي من الدعم القوي لأوكرانيا، إلى نهج “أكثر تصالحية” تجاه موسكو، قلقاً كبيراً في الأوساط الأوروبية، حيث تعتبر العديد من الدول الأوروبية روسيا التهديد الأكبر لأمنها.
ولطالما كرر الرئيس الأميركي أن على أوروبا تحمل المزيد من المسؤولية عن أمنها، مشيراً إلى أنه قد لا يلتزم بالدفاع عن حلفاء واشنطن في حلف الناتو، إذا لم يسهموا مالياً بشكل كافٍ في أمنهم الدفاعي.
وفي مؤشر على مدى القلق الأوروبي، وافقت الأحزاب الساعية إلى تشكيل الحكومة المقبلة في ألمانيا على رفع القيود الدستورية على الاقتراض، بهدف تمويل زيادة الإنفاق الدفاعي وتعزيز القدرات العسكرية للبلاد.