مع مضي قرابة أسبوع على سيطرة “إدارة العمليات العسكرية” التابعة لفصائل المعارضة المسلحة في سوريا على العاصمة دمشق، بدأت علاقة الحكومة الجديدة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تتصدر المشهد، في ظل اتخاذ الأكراد، المسيطرين على مناطق بشمال وشرق البلاد، سلسلة من الخطوات لإثبات حسن نواياهم ونفي فكرة الانفصال.
يأتي هذا في وقت تظهر تركيا، وهي عدوة ” قسد” اللدودة، إصراراً على إنهاء وجودهم العسكري، وعدم القبول بأي دور لهم في المنطقة، وهو ما يلقى اعتراضاً من الولايات المتحدة التي تعتبر “قسد” الحليف الموثوق لها منذ سنوات في محاربة تنظيم “داعش”.
ومع اشتداد هجمات “إدارة العمليات العسكرية” على محافظتي حمص وحماة، عُقد اجتماع روسي أميركي، الأسبوع الماضي، أفضى بانتشار قوات “قسد” إلى جانب الجيش السوري على امتداد طريق “حمص-دير الزور” و”الرقة-دير الزور”، بهدف حمايتها من الهجمات المحتملة من “داعش” الذي ينشط عبر عدة خلايا في البادية السورية.
لكن ثبت لاحقاً أن هذا التحرك كان للتغطية على انسحابات الجيش السوري الذي كان يشهد تفككاً تدريجياً مع بدء انهيار نظام بشار الأسد.
وبعد يوم واحد من دخول مقاتلي “إدارة العمليات العسكرية” دمشق، توجهت أرتال تابعة لفصائل المعارضة المسلحة باتجاه بادية دير الزور ووصلت إلى مشارف مركز المدينة، لكنها قُصفت بشكل تحذيري من طائرات “التحالف” الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، في إشارة منها إلى منع دخولهم إلى دير الزور.
وتهدف هذه الإشارة كذلك إلى ضرورة بدء المفاوضات وبحث مصير الضفة الشرقية لنهر الفرات، والتي دخلت إليها “قسد” وكذلك من دير الزور ووصولاً إلى مدينة البوكمال.
وقالت مصادر مطلعة، لـ”الشرق”، إن القوات الأميركية المتواجدة في حقل “كونيكو” للغاز بريف دير الزور أشرفت على عمليات نقل أسلحة الجيش السوري من مطار دير الزور، والفوج 137 في دير الزور، وأفواج عسكرية أخرى في مدينتي البوكمال والميادين، لافتين إلى أن من بينها ما يعتقد أن له ارتباطاً بـ”الأسلحة الكيمائية”.
وذكرت المصادر أن الغرض من دخول “قسد” إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات في دير الزور كان منع وصول أسلحة الجيش السوري إلى أيدي مقاتلي فصائل المعارضة المسلحة، وتسليمها بالكامل للقوات الأميركية المتركزة في كل من قاعدتي كونيكو والعمر في دير الزور.
وأوضحت أن انسحاب “قسد” ودخول مقاتلي “إدارة العمليات العسكرية” إلى مدن دير الزور والميادين والبوكمال وصولاً إلى الحدود العراقية تم بعد “وساطة أميركية”، مشيرين إلى أن هذه المفاوضات أسهمت في منع وقوع أي اشتباكات بين الطرفين.
انسحاب من منبج
ولم تهدأ هجمات “غرفة عمليات فجر الحرية”، التي تقودها فصائل المعارضة المسلحة التي تسمى نفسها “الجيش الوطني”، والمدعومة بسلاح الجو التركي، على مناطق سيطرة “قسد”، وذلك منذ إعلان سقوط نظام بشار الأسد، الأحد، وسط ترجيحات بأن يكون الهدف من هذا أن تستكمل أنقرة “الحزام الأمني” على الشريط الحدودي الشمالي لسوريا، ومحاولة إضعاف “قسد” والقضاء عليها.
ولم تستمر هجمات تلك الفصائل سوى 4 أيام حتى أعلنت “قسد” الانسحاب بشكل رسمي من مدينة منبج، معتبرةً أن ذلك إثبات لحسن النوايا والرغبة في تحقيق وقف لإطلاق النار في عموم سوريا، من أجل التوجه إلى الانخراط في العملية السياسية.
ورغم خطوة “قسد”، أعلن “الجيش الوطني” عن معركة السيطرة على مدينة عين العرب “كوباني”، في مؤشر على رغبته بعبور نهر الفرات باتجاه الشرق، والبدء بعملية السيطرة على مدن الشريط الحدودي الأخرى في محافظات حلب والرقة والحسكة.
ليردف ذلك بإعلان آخر، ذكر فيه أنه “موافق” على “هدنة” في منبج لمدة 4 أيام، من أجل تنفيذ تفاهمات أمنية وإنسانية، منها انسحاب قوات “قسد” وعوائلهم من المدينة.
ويبدو أن هذا الإعلان كان بداية لبدء خفض تصعيد غير معلن في منطقتي صرين وعين العرب بريف حلب الشمالي الشرقي، فيما يرجح أن يكون كذلك بداية لمحاولة الوصول إلى تسوية سياسية بشأن مستقبل مناطق سيطرة “قسد” في شمال وشرق سوريا.
وصدرت مواقف سياسية وعسكرية عدة خلال الساعات الماضية تهدف على ما يبدو إلى تهدئة الأجواء مع تركيا، من قيادة قوات ” قسد” ومجلس سوريا الديمقراطية “مسد”، وهو تحالف يضم مجموعة من القوى والأحزاب الكردية التي تمثل المرجعية والمظلة السياسية لـ”الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا.
كما تهدف هذه المواقف كذلك للوصول إلى تسوية سياسية مع أنقرة، في ملف الوجود العسكري ومستقبل “الإدارة الذاتية” في ظل سوريا الجديدة.
وقال القائد العام لـ” قسد” مظلوم عبدي في بيان على فيسبوك: “خلال التهديد الذي شكله تنظيم (داعش) عام 2015، ساهمنا في حماية رفات سليمان شاه عبر تسهيل نقلها إلى منطقة آشمة”، في إشارة إلى الموقع التاريخي لرفاة السلطان التركي سليمان شاه.
وأضاف: ”نجدد تأكيدنا على التزامنا الراسخ بالحفاظ على المواقع التاريخية، واستعدادنا للتنسيق مع جميع الأطراف المعنية لتيسير إعادة رفاته إلى موقع المزار الأصلي، بما يتماشى مع الاتفاقيات الدولية السابقة، وباحترام كامل للتراث الثقافي”.
واعتبر كثيرون البيان مبادرة حسن نوايا من “قسد” تجاه أنقرة التي أجرى جيشها قبل سنوات عملية إنزال جوي نقلت خلاله رفات السلطان شاه إلى الداخل التركي لحين استتباب الأمن في سوريا.
من جهته، أكد “مجلس الشعوب الديمقراطي”، التابع لـ”الإدارة الذاتية”، في بيان، أن “الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا جزء لا يتجزأ من الجغرافية السورية”، معلناً عن قراره بـ”رفع العلم السوري بنجماته الحمراء الثلاث على جميع المجالس والإدارات والمؤسسات على المرافق العامة التابعة لـ(الإدارة الذاتية)”، في إشارة إلى العلم الذي ترفعه المعارضة السورية منذ اندلاع الانتفاضة ضد نظام الرئيس السابق بشار الأسد في عام 2011.
وساطة أميركية وفرنسية
وقالت مصادر لـ”الشرق” إن الولايات المتحدة وفرنسا بدأتا وساطة بين “قسد” من جهة، وتركيا و”هيئة تحرير الشام” التي قادت فصائل المعارضة المسلحة للإطاحة بنظام الأسد من جهة أخرى، بهدف التوصل إلى “تفاهم سياسي لإشراك الأكراد في سوريا الجديدة بما يحفظ وحدتها واستقرارها”.
ولفتت إلى أن “قسد” تحضّر وفداً يضم مجموعة من قياداتها وبعض وجهاء العشائر والقبائل وممثلين عن مسيحيي المنطقة أيضاً، للقاء مسؤولين بـ”إدارة العمليات السياسية” في دمشق.
ورجحت المصادر أن يطلب من “قسد” الإعلان عن وضع نفسها تحت تصرف “إدارة العمليات العسكرية”، وإخراج كافة الكوادر القادمة من جبال قنديل في شمال العراق من مناطق سيطرتها، مع الإعلان عن فك ارتباطها بـ”حزب العمال الكردستاني” الذي تصنفه تركيا “منظمة إرهابية”، كشروط أساسية للقبول بالدخول في المفاوضات.
وأضافت أن تركيا تريد إنهاء “قسد” عسكرياً، لأنها ترى في ذلك الحل الوحيد لتأمين حدودها، والبدء بسحب القوات العسكرية التركية من شمال البلاد.
وتوقعت المصادر أن “ترفض” واشنطن خطة أنقرة لـ”القضاء” على “قسد”، مشيرةً إلى خشيتها على مصير الآلاف من معتقلي وعوائل تنظيم “داعش” المتواجدين في سجون ومخيمات بمحافظة الحسكة.
ولفتت إلى أن أنقرة تعول على “انهيارات داخلية” في بنية “قسد” بهدف إقناع الأميركيين بضرورة تفكيكها، ودخول فصائلها لحماية سجون ومخيمات “داعش”، وذلك في إشارة إلى الانشقاقات المتتالية لقادة “مجلس دير الزور العسكري”، وانضمامهم إلى “إدارة العمليات العسكرية”، واندلاع مظاهرات شعبية في عدة مدن وبلدات في محافظات دير الزور والحسكة والرقة الخاضعة لسيطرة “قسد”، والداعية إلى دخول مقاتلي “إدارة العمليات العسكرية” إلى مناطقهم.
مفاوضات كردية-كردية
منذ لحظة إعلان سقوط نظام الأسد، تنشط “الإدارة الذاتية” الكردية مع الدبلوماسيين الأميركيين والفرنسيين المتواجدين في مناطقها لتشكيل صورة جديدة، تحمي مناطق وجودهم من التهديدات التركية.
وشعرت “الإدارة الذاتية” أن أنقرة باتت في أوجّها بعد مشهد قيادة قائد “إدارة العمليات العسكرية” أحمد الشرع المعروف بـ”أبو محمد الجولاني” لسيارته برفقة رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، ما خفض من آمالهم بمفاوضات فاعلة مع الشرع، إلا في حال ضغطت واشنطن وباريس.
ولم تكتف “الإدارة الذاتية” بذلك بل فتحت قنوات تواصل مع قادة إقليم كردستان العراق ومنهم مسعود ومسرور برزاني للتوسط مع “المجلس الوطني الكردي” لتوحيد الجهود السياسية الكردية بمواجهة التطورات الحاصلة في المشهد السوري.
ووفقاً لمصادر “الشرق”، شدد دبلوماسيون في باريس تحديداً على ضرورة عقد اجتماع لممثلين عن “مسد” و”الإدارة الذاتية” و”المجلس الوطني الكردي” في أربيل لتوحيد الصفوف في هذه “المرحلة المفصلية”.
وتوقعت المصادر أن تحاول تركيا “إفشال” هذه المصالحة بهدف إقصاء “حزب الاتحاد الديمقراطي” و”الإدارة الذاتية” و”مسد” من أي حل سياسي لكونها تنظر إليهم على أنهم أذرع سياسية لـ”حزب العمال الكردستاني”.
المفاوضات مع “هيئة تحرير الشام”
وتداول كثير من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، الخميس، وثيقة قالوا إنها “مسودة تفاهم” بين “قسد” و”هيئة تحرير الشام” تنص على انسحاب “قسد” من شرق دير الزور ومدينتي الرقة والطبقة، مقابل ضمانات بعودة أهالي كل من عفرين ورأس العين وتل أبيض، وانسحاب الجيش التركي منها.
كما تنص الوثيقة على منح “الإدارة الذاتية” 50% من عوائد النفط في مناطقها، مع الحفاظ على “قسد” و”الإدارة الذاتية” والاعتراف بهما بعد رفع علم المعارضة السورية في مناطق سيطرتهم.
واستدعى انتشار هذه الوثيقة بشكل واسع توضيحاً من دائرة العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية”، إذ قال المتحدث باسمها، كمال عاكف، إن “كل ما تم تداوله حول مسودة أو تفاهم مع دمشق غير صحيح”، مشيراً إلى أنه “يتم حالياً الإعداد لمرحلة اللقاءات والحوارات بهدف توحيد الآليات والجهود لخدمة سوريا وشعبها”.
وشدد القيادي الكردي البارز في “الإدارة الذاتية” آلدار خليل على أن “المرحلة الجديدة تتطلب تحديد آلية وكيفية ونمط العلاقة مع دمشق، بما في ذلك اسم الدولة الجديد والميزانية وشكل الإدارة”، معرباً عن خشيته من “الدور التركي السلبي جداً من خلال محاولاتها المتواصلة في العمل على نشوء صراعات بين القوى الموجودة على الأرض”.
خيارات “قسد”
وتشير التطورات السريعة في المشهد السياسي والعسكري السوري إلى أن “قسد” بدأت تواجه تحدياً وجودياً في تقرير مصيرها في سوريا الجديدة، خاصة مع تأكيد “إدارة العمليات العسكرية” أنها “لا تقبل” بخروج أي جزء من جغرافية البلاد عن سيطرة الحكومة الحالية في دمشق.
ولا تبدو خيارات “قسد” واسعة رغم التأكيد الأميركي على التمسك بخيار دعمهم كحليف موثوق في القتال ضد “داعش”، لأنها بدأت تفقد جزء من حاضنتها الشعبية، في ظل أنباء عن سقوط شخصين ووقوع إصابات بمظاهرات في الرقة والحسكة وريف دير الزور.
ولعل الخيار الأسلم لـ”قسد” المضي مع الطلبات التركية عبر تسلم قائمة تركية بالشخصيات التي يجب أن تغادر من قادتها المرتبطين بـ”حزب العمال الكردستاني” وإعلان فك ارتباطها معه، والانخراط سياسياً وعسكرياً في الحكومة السورية الجديدة، بشكل يضمن تمثيل “الإدارة الذاتية” في المشهد السياسي الجديد في البلاد، ويحافظ على المتطوعين لديها من السوريين ضمن بنية الجيش الجديد الذي تعتزم الحكومة السورية الجديدة تشكيله من مختلف الفصائل التي شاركت في إسقاط النظام، وكل ذلك في حال وافقت أنقرة على ذلك أساساً.