معروف عن الكاتب الفرنسي جيل كيبيل، أستاذ العلوم السياسية، أنه محلل رفيع، ومستعرب مختص بشؤون الشرق الأوسط والإسلام، ولهذه الغاية، تتم استضافته من قِبل القنوات العالمية، للوقوف على رأيه حول التطوّرات السياسية.
يطرح كيبيل في كتابه الجديد “انقلاب العالم ما بعد 7 أكتوبر”، الصادر حديثاً عن (دار بلون) في باريس، تفسيراً جديداً للمعطيات السياسية المتلاحقة على مدى عام، ويربط المجريات في الشرق الأوسط، بما يحدث خارج جغرافيته، تفاعلاً مع ما يحدث في غزة من حربٍ دامية منذ عام ونيّف.
يرى الكاتب “أن أحداث 7 أكتوبر وما تلاها، عجّلت بانقلابٍ جذري في العالم، له جذوره في تاريخ طويل، ويستخدم في تبرير إحياء الصراعات التي تُشكل حاضر العالم المعاصر ومستقبله القريب، وفي الوقت نفسه تشقّ في العمق مجتمعاتنا على طول خطوط صَدع غير مسبوقة.”
ويؤكد “أن السابع من أكتوبر هو يوم فاصل، أنتج عواقب كثيرة، وترتّب عنه اختلالات عميقة للعلاقات بين الدول، كانت تعدّ ثابتة ويصعب تغييرها. لكن الحدث شكّل زلزالاً حقيقياً، تتسع تداعياته يوماً بعد يوم، لتشمل العالم بأسره”.
ويذهب بعيداً إلى اليوم الذي انطلقت فيه الحرب، معتبراً أنها “لحظة قطيعة تاريخية كبرى، تنذر بإعادة توزيع خريطة التوازن العالمي ما بين القوى العظمى القديمة، والجديدة الصاعدة، أي انقلاب النظام الجيوسياسي الحالي الذي تمّ تسطيره، مع نهاية الحرب العالمية الثانية أولاً، ثم بعد انهيار جدار برلين ثانياً”.
يقول في فصل بعنوان “الغارة والمذبحة: أثر انفجاري”: “إن هذه المأساة المذهلة، هي أصل الانقلاب الحقيقي في العالم بشكلٍ لم نعرفه من قبل”.
يعتبر الكاتب أن الحرب الحالية هي فصل درامي، لا يمكن فهمها إلا بإدراجها في تاريخ الشرق الأوسط تاريخياً وسياسياً، الذي تعلّمه وعلّمه، وأصدر حوله نحو عشرين كتاباً.
شمال مكروه
يعقد الكاتب مقارنة بين الحرب الجارية وما جرى في الحادي عشر من سبتمبر 2001، الحدث الذي هزّ نيويورك وأميركا عموماً، معتبراً “أن “حماس” ومحور المقاومة، أحدثا بعدها بأكثر من عشرين سنة، أكبر صدمة عسكرية ووجودية للدولة العبرية منذ إعلان قيامها عام 1948″.
وأشار إلى أن تلك الصدمة، “ترافقت مع موجة “شيطنة” للغرب من قِبل جزء من أبنائه، كما دلّت على ذلك احتجاجات طلاب جامعة كولومبيا بأميركا. وهكذا تمّ اعتبار إسرائيل والغرب “شمالاً مكروهاً”، يعارضه ويقف ضدّه تحالف فاضل وخيّر يمثله “الجنوب العالمي”.
يقول: “إن إسرائيل التي تأسست بقرار أممي إثر المحرقة النازية، بهدف تجنب تكرارها من جديد، ترمز حالياً على المستوى الأخلاقي، إلى هذا الشمال الذي يؤيد إسرائيل ويساندها، وصارت غزة التعبير المعاصر عن الإبادة الجماعية التي يُلحقها الشمال بالجنوب”.
يذكر الكاتب في هذا الإطار، أن مصطلح الإبادة الجماعية، ابتكره اليهودي رافائيل ليمكين، الناجي من النازية عام 1943، ليصف لممارسات النازية. ويقول: “تحوّل هذا المصطلح الآن إلى صفة للدولة التي أسسها الناجون من المحرقة”.
خطوط تصدّع جديدة
يرى الكاتب “أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي علاوة على امتداده الإقليمي، هو جزء لا يتجزأ من الاضطرابات التي يشهدها العالم، والتي تمتدّ خطوطها المتصدعة إلى الدول الغربية، من خلال تدخّل غير مسبوق في مواعيدها الانتخابية الكبرى، في واشنطن وبروكسل ولندن وباريس”.
ولفت إلى تطوّر الاحتجاجات ضد الإسرائيليين، إذ وصلت إلى المجالات الفنية والرياضية، التي كانت بعيدة عن النقد أو المطالبة بالمنع والمقاطعة. على غرار مسابقة أغاني “اليوروفيزيون” في مايو 2024، التي أقيمت في مدينة مالمو السويدية.
من جهة ثانية، تناول الصراع من قِبل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، اللتان أصدرتا قرارات إدانة أكثر من مرّة، ما جعل الهوّة بين الجنوب والشمال تتسع أكثر، منذرة بسيادة “عولمة متوحشة” كما عنون أحد فصول كتابه، معلنة انهيار “يوتوبيا العولمة السعيدة والديمقراطية والليبرالية”[..] التي جعلت أي مرجعية مشتركة، تحتكم إلى القانون العام في جميع أنحاء العالم، عشوائية، وخطيرة، بل ومصطنعة”.
وهكذا لم يَعُد القانون يطبّق ويفصل في النزاع الحالي، بل يخضع لأهواء ومصالح الدول بحسب موقفها من إسرائيل وحرب غزة، أي تبعاً لوضعها في الكرة الأرضية، لجهة قوتها العسكرية أولاً، ثم تأثيرها ثانياً.
الاستقطاب الهوياتي
ومن تداعيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الحالي، وموقعه في إطار الصراع ما بين الشمال والجنوب العالمي، تأجّج الجدل بقوّة غير مسبوقة، حول موضوع معاداة السامية، والهجرة، والإسلام.
ويشير هنا إلى ما حدث في بلده فرنسا، في شهر يونيو، خلال الانتخابات الأوروبية. إذ شهدت تقدماً كبيراً جداً لليمين المتطرّف المعادي للإسلام السياسي كما يسمونه، وللهجرة، ومن جهة ثانية بروز مظهر جديد لليسار الذي احتلت أحداث غزة مكاناً بارزاً في خطابه السياسي المؤيد للحق الفلسطيني، ما شكّل زلزالاً سياسياً أدى إلى حل البرلمان من قِبل رئيس الجمهورية”.
ويرى الكاتب “أن عودة الحديث عن الهوية الوطنية في فرنسا، له جذور تاريخية، تنبني على تعاقب حكايات مؤلمة تسكن المخيّلة الشعبية، ويتم إحياء بعضها من حين لآخر من قِبل دعاة الإيديولوجيات، كلما خدمت مصالحهم”.
ويرى أن أسبابها تعود إلى مراحل تاريخية معينة، أبرزها مخلفات الحروب الصليبية، والوجود العربي والعثماني في أوروبا، والوجود الاستعماري في دول شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، وموجات الهجرة الجنوبية المتتالية الى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الصهيونية، ثم إعلان الدولة العبرية عام 1948.