شهدت الحدود السورية اللبنانية حالة من التوتر خلال الأيام القليلة الماضية بعد سقوط 4 عناصر من الجيش اللبناني في اشتباكات مع “مسلحين”، الأمر الذي أثار مخاوف بشأن خطورة الواقع الأمني بعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار قواته العسكرية، كما تعكس تشابك العوامل الأمنية والاجتماعية والتداخل بين البلدات المشتركة، وتعيد إلى الواجهة ملف ترسيم الحدود بين البلدين.
وأعلن الجيش اللبناني، إصابة 4 من عناصره جراء تجدد الاشتباكات مع من وصفهم بـ”مسلحين سوريين”، بعد استهدافهم وحدة عسكرية في منطقة معربون-بعلبك عند الحدود اللبنانية السورية.
وفي أعقاب هذه التطورات، أجرى رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي اتصالاً مع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، تطرَّقا فيه إلى ما تعرَّض له الجيش على الحدود، وأهمية التواصل من أجل التشاور بشأن الملفات المشتركة.
وعلى الطريق الممتد من حمص وصولاً إلى معبر “العريضة” الحدودي من الجانب السوري ينتشر المئات من بائعي المحروقات بشكل عشوائي، يشترون المواد من أصحاب الدراجات النارية القادمين بها من معابر غير شرعية على الحدود اللبنانية.
مناطق متداخلة
اعتبر أستاذ القانون الدولي جهاد الصواف، أن أمام لبنان “فرصة” بعد سقوط نظام الأسد تتمثل في إعادة فتح ملف ترسيم الحدود بين البلدين، وذلك بعد تشكيل حكومة سورية كاملة الصلاحيات، وليس حكومة تصريف الأعمال الحالية.
وقال الصواف في تصريحات لـ”الشرق”: “يبلغ طول الحدود السورية اللبنانية نحو 375 كيلومتراً، وتشمل العديد من البلدات والقرى التي تقع على كلا الجانبين حيث تتنوع بين المناطق الجبلية والسهول والمناطق الزراعية، فيما تُعتبر بعض البلدات الحدودية نقاطاً حساسة ومناطق نزاع، بينما هناك مناطق تشهد تداخلاً ثقافياً واجتماعياً”.
على الجانب اللبناني، توجد عدة مناطق حدودية، منها “الهرمل” في شمال شرق لبنان، وتُعتبر بوابة إلى منطقة القلمون السورية، وفي الشمال تقع محافظة عكار التي تضم العديد من البلدات المتشاركة في الحدود مثل “العبودية”، ومنطقة “وادي خالد”، التي تشهد حركة تنقلات يومية بين الجانبين.
أما محافظة البقاع، التي تشكل الجزء الأكبر من الحدود اللبنانية مع سوريا، فتضم العديد من البلدات مثل “عرسال” و”جديدة يابوس”.
وفي الجانب السوري هناك نقاط أخرى مهمة مثل بلدة “القصير” الواقعة في محافظة حمص، والتي شهدت خلال الحرب السورية قتالاً عنيفاً، وتُعتبر طريقاً للتهريب والتجارة عبر الحدود، وأيضاً أحد المناطق التي تمركزت فيها جماعة “حزب الله” اللبنانية خلال السنوات الماضية.
كما توجد منطقة “الزبداني” الواقعة في ريف دمشق الممتدة إلى سلسلة لبنان الشرقية، والتي كانت مركزاً للنزاع بين فصائل المعارضة المسلحة، والجيش السوري و”حزب الله”.
وتربط 6 معابر حدودية رسمية بين سوريا ولبنان، ومن أهمها “المصنع” (شرق لبنان)، و”العبودية” (شمال لبنان)، وتُعتبر ممراً للحركة التجارية باتجاه الدول العربية.
وبالنسبة للمعابر غير الشرعية، فيُقدَّر عددها بأكثر من 15 معبراً خاضعة لسيطرة فصائل مسلحة، أو عشائر، والتي ازداد نشاطها خلال سنوات الحرب في سوريا.
جذور تاريخية واجتماعية
تحدَّث جهاد الصواف عن أن “جذور مشكلة الحدود بين سوريا ولبنان تعود إلى فترة الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، عندما تم ترسيم حدود البلدين بشكل اصطناعي من قِبَل سلطات الانتداب”.
وأضاف أن “الحدود لا تعكس حقيقة التوزيع السكاني أو الجغرافيا السياسية، حيث شملت بعض المناطق التي كانت ثقافتها وحياتها الاجتماعية أكثر ارتباطاً بجوارها من الحدود الرسمية”.
وتابع: “استمر تأثير سوريا على لبنان في العديد من الفترات حيث تدخلت عسكرياً وسياسياً، ومن بين المشكلات الكبرى التي تُمثّل عائقاً، هناك قضية منطقة شمال لبنان ووادي البقاع، حيث تقع بعض المنازل في الجانب السوري والبعض الآخر في لبنان”.
ومضى قائلاً: “يسهم التداخل الاجتماعي والاقتصادي بين السكان على جانبَي الحدود في تعزيز هذه الإشكاليات، إذ يتشارك اللبنانيون والسوريون في علاقات عائلية وتجارية، ما يجعل تحديد الحدود بين البلدين أمراً غامضاً، ويضاف إليها الأعداد الكبيرة من النازحين السوريين الذين تدفقوا منذ عام 2011”.
وأشار الصواف إلى أن “منطقة مزارع شبعا واحدة من أكثر النقاط الحساسة في النزاع الحدودي بين البلدين مع الاحتلال الإسرائيلي”، لافتاً إلى أن “الجانب اللبناني يعتبرها خاضعة لسيادته، مع وجود مستندات رسمية لتبعية القرى فيها للدولة اللبنانية، لذا يجب على إسرائيل الانسحاب منها، مضيفاً أن”الجانب الإسرائيلي يعتبرها أرضاً سورية احتلها في يونيو 1967، وهو ما يتطلّب من الجانب السوري القبول بترسيم الحدود”.
ترسيم الحدود
نبّه الصواف إلى عدة أسباب منعت ترسيم الحدود بين البلدين، حيث “كان الجيش السوري متواجداً في لبنان في الفترة بين عامي 1976 و2005، وخلال هذه الفترة كانت دمشق تتحكم بشكل غير مباشر في السياسات اللبنانية، بما في ذلك المواقف المتعلقة بالحدود”، لافتاً إلى أن “هذا الوجود العسكري والسياسي جعل سوريا لا ترى الحاجة لترسيم الحدود بشكل رسمي، إذ كانت تعتبر لبنان جزءاً من مجالها الحيوي”.
واستدرك بالقول: “في السنوات الأخيرة، كان هناك ضغط دولي على سوريا للالتزام بالقوانين الدولية، بما في ذلك قضية الحدود، خاصة مع قضية تهريب المخدرات. ومع ذلك، فإن سوريا كانت تفضّل إبقاء الأوضاع على حالها وعدم التفاوض بشأن الترسيم، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى المزيد من الضغوط أو التدخلات الخارجية في شؤونها”.
مخاوف أمنية
أطلقت قوات الأمن العام في الإدارة السورية الجديدة، قبل أيام، حملة أمنية في منطقة الزبداني المتاخمة للحدود اللبنانية، بحثاً عمن وصفتهم بـ”فلول” نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وعناصر تابعة لجماعة “حزب الله”، في إطار سلسلة عمليات أمنية تنفّذها بالمحافظات.
في هذا السياق، قال العميد المتقاعد في الجيش اللبناني إلياس الخوري، إن “الحدود السورية اللبنانية معقدة جغرافياً وأمنياً، حيث شهدت انتشاراً لعدد من الجماعات المسلحة التي لها ارتباطات مختلفة مع القوى المحلية والإقليمية، وهذه الجماعات تختلف في أهدافها وأيديولوجياتها، بالإضافة إلى الأنشطة العسكرية والتهريب”.
وأضاف الخوري في تصريحات لـ”الشرق” أنه “على الرغم من سقوط نظام الأسد إلا أن الخوف من وقوع نزاعات بين الفصائل المسلحة والجيش اللبناني لا تزال قائمة، وخاصة في حالة عدم قدرة الإدارة السورية الجديدة على ضبط باقي الفصائل المسلحة على أراضيها تحت سلطة وزارة الدفاع، ما قد يدفعهم للتوجه نحو مناطق الأطراف ومنها جبال لبنان”.
واعتبر أن “حزب الله له وجود واسع في المناطق الحدودية مع سوريا، نظراً لأن محافظة البقاع تُعتبر حاضنة شعبية له، وخلال الحرب السورية امتدت سيطرته خلال نزاعه مع الجماعات المتشددة إلى جبال القلمون”.
وتابع: “سقوط النظام أدى لقطع شريان الإمداد الحيوي له (حزب الله)، الممتد من إيران إلى البادية السورية وصولاً إلى شرق لبنان”، على حد قوله.
ومضى الخوري قائلاً: “هناك جماعات مسلحة أخرى تعمل بشكل غير رسمي، وتتمثل أنشطتها في تهريب الأسلحة والمخدرات والإتجار بالبشر، قد تكون مرتبطة بمصالح اقتصادية أو تتلقى الدعم من أطراف إقليمية”.
“عمليات تهريب”
رجَّح الخوري أنه مع سقوط نظام الأسد من المفترض أن “يتراجع تهريب المخدرات بشكل كبير، نتيجة ما تم اكتشافه من معامل لتصنيف المواد المخدرة”.
وأردف بالقول: “عملية تبادل البضائع والتهريب بين القرى اللبنانية والسورية موجودة منذ استقلال البلدين، وإذا تم ترسيم الحدود قد تبقى بعض الحالات موجودة بسبب التداخل فيما بينها، وهو ما يتجسّد في منطقة مضايا بريف دمشق، التي توصف بالسوق اللبنانية نتيجة البضائع الموجودة فيها، وفي الشمال اللبناني يمكن العبور سيراً على الأقدام عبر النهر الكبير الجنوبي نحو قرية عزير في منطقة تلكلخ السورية”.
ويقول لبنان إنه يتطلّع إلى علاقات أفضل مع جارته سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد، وبدء صفحة جديدة بعدما شهدت العلاقات بين البلدين توترات في كثير من الأحيان منذ أن أصبحا دولتين مستقلتين في الأربعينيات من القرن الماضي.