أدى الفوز المفاجئ للقومي المتطرف والمؤيد لروسيا، كالين جورجيسكو، في الانتخابات الرئاسية الرومانية، إلى إدخال البلاد في أزمة ثقة، فقد برز السياسي المغمور المناهض لبروكسل والمتشكك في حلف شمال الأطلسي “الناتو” من العدم في الشهر الماضي ليحتل موقع الصدارة في الجولة الأولى من الانتخابات.
وألغت المحكمة الدستورية العليا في رومانيا نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في البلاد بعد اتهامات بالتدخل الروسي وقالت إن العملية برمتها، سيتعين إعادتها، فيما لا تزال البلاد تعاني من صعود جورجيسكو وسقوطه السريع، وفق “بوليتيكو”.
وتسعى الأحزاب في البلاد إلى تشكيل حكومة ائتلافية بعد انتخابات برلمانية منفصلة، بعدها سيعرف الرومانيون متى سيكونون قادرين على التصويت مرة أخرى لانتخاب رئيس جديد للبلاد.
وذكرت “بوليتيكو”، أن مستقبل جورجيسكو السياسي غير مؤكد؛ إذ يعتقد الكثيرون أنه قد يُستبعد من الترشح مرة أخرى على أساس حكم الإلغاء الصادر عن المحكمة العليا.
ومن المرجح أن يظل المحللون السياسيون والمؤرخون والمحققون في بوخارست وبروكسل يتجادلون لسنوات بشأن مدى مساهمة الكرملين أو حملة التأثير المدعومة من “تيك توك” في تسهيل فوز جورجيسكو.
“سياسي مغمور معجب ببوتين”
وقالت أوانا بوبيسكو زامفير، مديرة مركز “جلوبال فوكس”، وهو مركز أبحاث للسياسة الخارجية والأمن في بوخارست، إن فوز جورجيسكو لا يتعلق بحب مفاجئ لروسيا أو اليمين المتطرف، بقدر ما يتعلق بخيبة أمل عميقة تجاه ما يُنظر إليه على أنه طبقة سياسية بعيدة عن الواقع، وغير مبالية”.
وأضافت: “لقد طوّر الناس هذه الفكرة القائلة بأن كل شيء يتم التلاعب به على أي حال، وكل شيء يتم تقريره خلف الأبواب المغلقة، وأن ما تراه ومن تصوت له أقل أهمية بكثير”، مشيرة إلى أن “الناس باتوا يؤمنون بأن الحياة السياسية والمؤسسات تهيمن عليها شبكات مصالح غامضة”.
واعتبرت “بوليتيكو” أن صعود جورجيسكو كان مفاجئاً وغير متوقع لدرجة أن الرومانيين الليبراليين توجّهوا إلى حساباته على الإنترنت، لمحاولة معرفة ما يمثله ومن أين أتى”.
وتساءلت المجلة الأميركية قائلة: “كيف يمكن لمتمرد مجهول، بلا حزب سياسي، ولا ملف تعريف إعلامي رئيسي وبنية تحتية صفرية للحملة، أن يشقّ طريقه للفوز بالرئاسة؟ هل كانت الانتخابات نزيهة أم احتيالية؟ كيف فشلت أجهزة الأمن في اكتشاف ما كان يحدث؟.
وخاض جوجيسكو، البالغ من العمر 62 عاماً، حملة ركزت في المقام الأول على مواقع التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب و تيك توك، حيث انتقد الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وأشاد ببوتين باعتباره “وطنياً”، كما أشاد بأمير الحرب في العصور الوسطى فلاد المخوزق (المعروف أيضاً باسم دراكولا) باعتباره بطلاً قومياً.
كما شكك في اللقاحات، وعارضت حملته توسيع حقوق المثليين جنسياً، ومثله كمثل بوتن، كان يحب الجودو. وقد أعرب عن إعجابه بزعيم رومانيا المؤيد لألمانيا في الحرب العالمية الثانية إيون أنتونيسكو، الذي دعم محرقة الهولوكوست.
ويعارض جوجيسكو الاتحاد الأوروبي ووصف الدرع الصاروخي للولايات المتحدة الموجود على الأراضي الرومانية بأنه “عار وطني”، وتعهد بإنهاء جميع المساعدات لأوكرانيا.
في أحد أكثر مقاطع الفيديو نجاحاً على مواقع التواصل الاجتماعي، ارتدى قميصاً رومانياً تقليدياً، وركب حصاناً أبيض راكضاً. وقالت “بوليتيكو” إنه قدّم صورة لرجل يجسد وطنه، الأرض الخصبة والجبال وأساطير ترانسيلفانيا، والميراث الفولكلوري للأمة الرومانية.
المؤسسة ترد الضربة
لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى بدأت المؤسسة السياسية في رومانيا في الرد. خلال الأيام التي أعقبت فوز جورجيسكو المفاجئ، نمت الشكوك في أنه استفاد من عملية تدخل مدعومة من روسيا، وهي الفكرة التي شجعها الرئيس يوهانيس عندما رفع السرية عن ملفات الاستخبارات قبل أيام قليلة من بدء الجولة الثانية والأخيرة من التصويت.
كانت الوثائق السرية مثيرة للجدل، إذ زعمت أن البلاد تعرضت لهجوم “هجين” من موسكو، وأن رسائل جورجيسكو المناهضة للغرب تم تضخيمها بواسطة جيش يشبه الروبوتات يتكون من 25 ألف حساب على تيك توك. كما ألقت بظلال من الشك على شرعية تمويل حملته.
في غضون ذلك، توافد الرومانيون الليبراليون لدعم إيلينا لاسكوني، مرشحة حزب “انقذوا رومانيا” التي كان من المقرر أن يواجهها في جولة الإعادة.
وقدمت لاسكوني، وهي ليبرالية من يمين الوسط دافعت عن أوراق اعتمادها المؤيدة لأوروبا، بديلاً واضحاً، لكنها تفتقر إلى الثقل السياسي، كانت تجربتها الحقيقية الوحيدة في المناصب العليا هي فترة عملها كرئيسة لبلدة صغيرة تبعد 150 كيلومتراً عن بوخارست.
ومع ذلك، في الخامس من ديسمبر، نزل الآلاف من الناس إلى الشوارع للتعهد بدعمهم للهوية “الأوروبية” لرومانيا، مرددين شعار “الحرية” ولوحوا بأعلام الاتحاد الأوروبي إلى جانب خطوطهم الوطنية الزرقاء والأصفر والأحمر.
“الفساد في كل مكان”
بالنسبة للمراقبين الخارجيين الذين خشوا أن تحاكي رومانيا المجر وتنتخب متعاطفاً آخر مع الكرملين على غرار فيكتور أوربان، كان إلغاء الانتخابات مؤشراً على “العودة إلى الصواب”.
ورغم ذلك، حث جورجيسكو أنصاره على عدم “الاستسلام” والتمسك بالإيمان. وقال: “اليوم، داست الدولة الرومانية على الديمقراطية. في هذا اليوم، عقد النظام الفاسد ميثاقاً مع الشيطان. لدي ميثاق واحد فقط، مع الشعب الروماني والله”.
وأدلت منافسته، لاسكوني، بتصريح مماثل بشكل لافت للنظر. قالت: “اليوم هو اللحظة التي استرجعت فيها الدولة الرومانية الديمقراطية. الله والشعب الروماني والحقيقة والقانون سوف يسودون وسيعاقبون أولئك المذنبين بتدمير ديمقراطيتنا”.
وأياً كان الدور الذي لعبه الكرملين أو تيك توك في الصعود السريع لجورجيسكو، فإن شعبيته كانت، قبل كل شيء، مؤشراً لخيبة أمل كبيرة في الطبقة السياسية، بحسب “بوليتيكو”.
وقالت ميرونا باراسكا، وهي مهندسة معمارية تبلغ من العمر 26 عاماً، بعد ساعات قليلة من إعلان المحكمة: “أعتقد أن جورجيسكو دمية أخرى لجزء سيئ للغاية من ثقافتنا الآن”. لكن إلغاء الانتخابات “لم يكن جيداً”، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين دعموه.