عاد الهدوء ليخيم مجدداً على مدن سورية شهدت خلال اليومين الماضيين موجة من المظاهرات تخللتها حوادث إطلاق نار، ووقوع خسائر بشرية ومصابين، وذلك عقب انتشار مقطع فيديو يتضمن اعتداءً على أحد المقامات الدينية للطائفة العلوية في مدينة حلب، شمالي سوريا.
بداية الأحداث اشتعلت بعد انتشار المقطع صباح الأربعاء الماضي، صوّره أحد العناصر المسلحة، ويظهر قيام عدد من المسلحين بإحراق مقام الشيخ “أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي” في منطقة ميسلون شرقي مدينة حلب، والذي يعد من أبرز المعالم الدينية وأهمها على الإطلاق للطائفة العلوية. ويعد الخصيبي المؤسس الأول للطائفة العلوية.
وظهر في الفيديو أن العناصر المسلحة أقدمت على قتل خادمي المقام والتنكيل بهم، وإحراق ما بداخله من كتب ومخطوطات قيمة.
وعقب انتشار مقطع الفيديو، ضجت أوساط السوريين عموماً، وأبناء الطائفة العلوية في سوريا على وجه الخصوص، نظراً للمكانة الدينية الرفيعة للمقام المعتدى عليه.
“لا تحرك غير اعتيادي”
وسارع عدد من المراسلين إلى موقع المقام للتأكد من صحة ما ظهر في الفيديو، ليتبين أن المقام من الخارج كان على وضعه السابق دون وجود أي مظاهر تؤكد الاعتداء عليه، بحسب اثنان من المراسلين الذين تمكنوا من الوصول للمقام، خلال حديثهما لـ”الشرق”.
وتطابق حديث المراسلين حول ما جرى معهما خلال لقائهم بعناصر الحماية المكلفين من إدارة الأمن العام في إدارة العمليات العسكرية بحماية المقام وحراسته، حيث أكد عناصر الحراسة أنهم “موجودون منذ نحو 20 يوماً في المقام”، وأنه “لم يتعرض لأي عمل تخريبي منذ وصولهم إليه، وتسلم مهام حمايته”.
ولفتا في الوقت ذاته إلى “منع دخول أي شخص كان إلى المقام حفاظاً عليه”، وبالتالي مُنع المراسلان من الدخول أيضاً.
وأشار عدد من السكان القاطنين بجوار المقام، إلى عدم رصدهم أي تحرك غير اعتيادي، أو حتى لأصوات رصاص أو دخان انبعث من المقام جراء الحريق، منذ أكثر من أسبوعين، الأمر الذي دفع بعدد من الصحافيين إلى نفي وقوع الحادثة، بينما ذكر آخرون، أنها وقعت بالفعل في ظل تطابق معالم المقام التي ظهرت بالفيديو مع المعالم المعروفة للمقام.
وزارة الداخلية في حكومة تصريف الأعمال السورية حسمت الجدل من جانبها، وخرجت في بيان على “فيسبوك”، مفاده أن “الفيديو قديم يعود لفترة تحرير مدينة حلب، أقدمت عليه مجموعات مجهولة”، وأن “أجهزتنا تعمل ليل نهار على حفظ الأملاك والمقدسات الدينية، والهدف من إعادة نشر هكذا مقاطع هو إثارة الفتنة بين أبناء الشعب السوري في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها سوريا”.
وسبق أن تعرض المقام لحالات تخريب محدودة في بداية الأحداث في سوريا عام 2012، فيما أجريت له عمليات ترميم كاملة ما بين عامي 2016 و2017، بعدما تمكنت قوات نظام الرئيس السابق بشار الأسد آنذاك من السيطرة على الأحياء الشرقية من حلب، قبل أن يعود إلى واجهة الأحداث مؤخراً، مع دخول قوات المعارضة المسلحة إلى المدينة في 29 نوفمبر الماضي.
احتجاجات واسعة وخسائر بشرية
ورغم الوعود التي أطلقتها وزارة الداخلية بمحاسبة المتورطين في حادثة الاعتداء على مقام الخصيبي وتصويره، إلا أن احتجاجات شعبية واسعة سرعان ما اجتاحت مدن حمص وطرطوس واللاذقية وجبلة، تزامناً مع مظاهرات غاضبة محدودة في بعض أحياء العاصمة دمشق.
وقال أحد الشهود من طرطوس لـ”الشرق”، إنه “فور ظهور فيديو إحراق المقام، بدأت الدعوات للتظاهر، وسرعان ما تهافت الأهالي بأعداد كبيرة، معظمهم من أبناء الطائفة العلوية، إلى أمام مبنى المحافظة عند مدخل المدينة، حيث تتمركز قوات إدارة العمليات العسكرية”.
وأشار إلى أن “عدداً من عناصر الأمن العام خرجوا بأسلحتهم وآلياتهم لمحاولة فضّ المتظاهرين المحتشدين، إلا أن تعليمات صارمة سرعان ما وصلت إليهم من قيادة العمليات بعدم التدخل، لتنتهي المظاهرة مع تأخر ساعات الليل بشكل سلمي، ودون تسجيل أي أحداث عنف في المدينة”.
المشهد في ريف طرطوس اختلف عن سابقه في المدينة، إذ سجلت مواجهات عنيفة بين قوات الأمن العام ومسلحين، قالت إدارة العمليات العسكرية، إنهم “مطلوبون ويتبعون لفلول نظام الأسد”، في قرى خربة المعزة والزريقات والتلال، لتسفر الاشتباكات في محصلتها عن سقوط العشرات من كلا الطرفين، وفق ما ذكرته مصادر محلية لـ”الشرق”.
وعقب ذلك، عادت الأمور إلى نصابها، وتمكنت قوات الأمن العام من إعادة فرض الهدوء، تزامناً مع نشرها تعزيزات إضافية كبيرة في محيط تلك القرى.
وفي السياق، قالت وزارة الداخلية في بيان، إن بعض “فلول النظام” في الساحل السوري “حاولت استغلال الشائعات”، و”قامت باستهداف قواتنا في وزارة الداخلية”، ما أسفر عن سقوط عدد من الأشخاص وإصابة آخرين.
وأفاد وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد عبد الرحمن في بيان، بوقوع 14 عنصراً وإصابة 10 آخرين من عناصر وزارة الداخلية، مشيراً إلى “تعرضهم لكمين غادر” من “فلول النظام” بريف محافظة طرطوس.
أما مدينة حمص فقد شهدت واحدةً من أكبر المظاهرات الاحتجاجية الغاضبة من حرق مقام الخصيبي، حيث خرج الآلاف من الأهالي في شوارع مختلفة، أكبرها في شارع “الحضارة”، وفق ما ذكره “أ، د” وهو أحد المشاركين في المظاهرات التي استمرت إلى وقت متأخر من الليل، رغم كل محاولات قوات إدارة العمليات العسكرية لفضها.
ونقلت وسائل إعلامية سورية عدة عن مصادر من حمص قولهم، إن مدني لقي حتفه، وإصابة 5 آخرين بجروح، جراء إطلاق الرصاص على المتظاهرين في المدينة، فيما لم يصدر أي بيانٍ رسمي من وزارة الداخلية بشأن هذه الأحداث.
وتداول ناشطون عبر منصات التواصل الاجتماعي لاحقاً، فيديوهات لعناصر الأمن العام في قوات إدارة العمليات العسكرية، أثناء محاولاتهم تهدئة المتظاهرين في حمص، من خلال طمأنتهم بمحاسبة المعتدين على مقام الخصيبي، وأيضاً الهتاف مع المتظاهرين المتجمعين تأكيداً على حرمة الاعتداء على المقامات الدينية.
وفي أعقاب انحسار موجة المظاهرات، وتوقفها بشكل تام منتصف ليل الأربعاء الماضي، سارعت إدارة قوات الأمن العام إلى نشر أعدادٍ كبيرة من عناصرها في مختلف المدن التي شهدت مظاهرات.
وفرض حظر للتجوال في مدن اللاذقية وحمص وطرطوس وجبلة، من الساعة الثامنة مساءً وحتى الثامنة صباحاً، قبل أن تعود عن قرارها ظهر اليوم التالي، في ظل عودة الهدوء والأوضاع الطبيعية إلى كافة تلك المدن.
“أيادٍ خارجية”
ويرى المحلل السياسي وائل الأمين، أن “التأخر في نشر فيديو الاعتداء إلى ما بعد وقوعه بوقت طويل وفق تأكيدات غرفة العمليات العسكرية، أدى إلى الشك بوجود أيادٍ خارجية تحاول العبث بأمن واستقرار سوريا، وربما بالفعل أن هناك أيادٍ خارجية تعمدت تنفيذ تلك الخطوة بهذا التوقيت تحديداً”.
وأضاف الأمين لـ”الشرق”، أن “هناك عبء كبير جداً على حكومة الإنقاذ وإدارة العمليات العسكرية في الوقت الراهن، لوأد الفتنة والعيش بأمان وسلام ضمن سوريا جامعة لكل السوريين، بمختلف مذاهبهم وطوائفهم”، واصفاً المرحلة الحالية بأنها “حساسة جداً”.
وأعرب عن اعتقاده بأن “التعامل مع مجريات الأحداث في الأيام الماضية أثبت أن الحكومة السورية الجديدة قادرة على وأد الفتن والتعامل معها، وهناك تبعات أخرى يجب على الحكومة أيضاً تنفيذها لمنع أي نشاط طائفي.. والأيام القليلة القادمة ستبيّن بشكل أكبر مدى قدرة الحكومة على ضبط الأوضاع في البلاد”.
وأشار الأمين، إلى أن الحكومة الجديدة “تدرك أن صفحة الماضي لا يجب أن تعود إلى سوريا، لناحية العيش في ظل الطائفية والتجاذبات السياسية”، مضيفاً: “تعي (الحكومة) بالمطلق المخاطر اللاحقة لتلك الصفحة، وما يمكن أن تسببه من فتح المجال أمام الدول الإقليمية والعالمية للتصيد بالماء العكر”.
وبالنسبة لآفاق الحل للوصول إلى استقرار أكبر في سوريا، لفت الأمين، إلى “وجود عدة خطوات يجب اتخاذها في الفترة القادمة، يتقدمها انعقاد مؤتمر وطني جامع لكل السوريين، وهو الحل والمخرج الوحيد لمنع أي نشاط طائفي، ومنع استغلال أي دولة لأي نعرات طائفية في هذا التوقيت”.
واعتبر أن “الأولوية القصوى حالياً هي بناء وترتيب البيت الداخلي السياسي في سوريا، وإعادة بناء البنية التحتية، وبناء المؤسسات من جديد بعيداً عن الفساد وعن المنظومة التي كانت تحكم سابقاً عمل تلك المؤسسات”.
وأردف: “وتوحيد الراية في البلاد والتي شهدنا مؤخراً بخصوصها، الاتفاق على حل أكثر من 50 فصيل ودمجهم تحت مظلة وزارة الدفاع السورية، وهذا الأمر كان لافتاً، ويدل على وعي الإدارة السياسية والعسكرية الجديدة”.