بعد سنوات من حكم الرئيس السابق بشار الأسد، يجد السوريون أنفسهم على أعتاب مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والمخاوف، إذ أن سقوط النظام لم يكن مجرد حدث سياسي؛ بل كان بمثابة زلزال هزّ كيانات اجتماعية ودينية في عمق المجتمع السوري.
ومع انتقال السلطة إلى فصائل المعارضة المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، تشعر العديد من الأقليات الدينية في سوريا بقلق متزايد حيال ما قد يحمله المستقبل لهم.
وبات العلويون، الذين كانوا في قلب النظام السابق، وخاصة في المناطق الساحلية مثل اللاذقية وطرطوس، يواجهون تحديات كبيرة، إذ كان الكثير منهم قد وضعوا ثقتهم في بشار الأسد، الذي طالما استخدمهم كدرع بشري ضد المعارضة المسلحة، لكن الآن، يواجهون مصيراً غامضاً مليئاً بالخوف من الانتقام بسبب ارتباطهم بالنظام، خاصة مع الصعود المحتمل لتلك الفصائل.
وقال أمجد محسن، الشاب العلوي الذي نشأ في مدينة اللاذقية: “لا يوجد مكان في سوريا لم يشعر فيه العلويون بالخوف، سواء في المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام أو في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة. وكنا دائماً نعيش تحت تهديد مستمر، سواء من المتطرفين أو من المجموعات المعارضة التي كانت ترى فينا جزءاً من النظام القمعي”.
ويعيش أمجد محسن في حالة من الانقسام الداخلي، إذ يؤكد من جهة على أهمية الوحدة الوطنية والعيش المشترك بين الطوائف السورية، ومن جهة أخرى، يعبر عن قلقه العميق بشأن مصير العلويين بعد سقوط نظام الأسد.
وبالنسبة له، لا يمكن إنكار حقيقة أن الطائفة العلوية كانت في قلب النظام السابق، وكانت في صلب المعركة التي خاضها الأسد ضد معارضيه، قائلاً: “نعلم أنه كان هناك من يرى فينا درعاً بشرياً”، ملمحاً إلى الدور الذي لعبه أبناء الطائفة العلوية في حماية نظام الأسد طوال سنوات الحرب.
وأضاف: “بدأنا نشعر مع سقوط النظام، بأننا قد نكون عرضة للانتقام من قبل فصائل المعارضة، خصوصاً تلك التي تتبنى الفكر المتشدد”.
وإلى جانب أمجد، تقف صديقته نورا، من الطائفة العلوية أيضاً، ولكن تجربتها تختلف كثيراً عن تجربته، قائلة: “أنا علوية، لكنني لم أكن أؤيد بشار الأسد أبداً. لم أكن أعتقد أن الأسد هو الحل، بل كنت أرى في سياساته العديد من الأخطاء التي تسببت في الدمار”.
وأضافت نورا: “كنت أرى أن كل شيء كان على حساب الشعب السوري، سواء كان علوياً أو غيره. لم يكن لدينا حق في الاختيار، وكان هناك شعور بالضغط المستمر على الجميع”.
وتابعت: “كنت دائماً ضد نظامه، كنت أرغب في دولة مدنية، دولة تعترف بحقوق جميع الطوائف دون تفرقة. كنت أحلم بسوريا التي تكون فيها الحريات للجميع، ويعيش الجميع بسلام”.
ورغم مواقفها المعارضة لنظام الأسد، لا يمكن لنورا أن تخفي القلق الذي يعتريها، إذ قالت: “نعم، النظام سقط، ولكن السؤال هو: ماذا بعد؟ هل سيكون هناك مكان لنا في المستقبل؟ إذا كانت الفصائل هي من ستسيطر، فإننا نعلم تماماً أنهم لا يرون فينا جزءاً من هذا البلد. هل سنعيش هنا كأفراد مهمشين؟ هل سنُحرم من حقنا في التعبير والمشاركة؟”.
وبينما يساور القلق العديد من الدول والمنظمات حول كيفية تعامل السلطة الجديدة في سوريا مع الأقليات، يحاول رئيس الحكومة المؤقتة محمد البشير طمأنة هذه الأطراف.
وشدد محمد البشير، رئيس حكومة تصريف الأعمال، في مقابلة مع صحيفة “كورييري دي لا سيرا” الإيطالية، على التزام حكومته بـ”ضمان حقوق جميع السوريين، بغض النظر عن طوائفهم أو خلفياتهم”.
وفي الوقت ذاته، تظل “هيئة تحرير الشام”، التي انفصلت عن تنظيم “القاعدة” في عام 2016، تحت أنظار المجتمع الدولي، حيث لا تزال مدرجة في قوائم الإرهاب في العديد من الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة.
تفاؤل حذر
ولا تقتصر المخاوف على العلويين فقط، بل تشمل أيضاً المسيحيين والدروز، الذين كانوا يعتمدون على دعم النظام لحمايتهم في مواجهة تحولات البلاد.
وقال فرج دولي، وهو مسيحي سرياني من مدينة حلب، عن التهديدات التي تلقاها من بعض الفصائل خلال الحرب: “كنا نتمنى أن يسقط الأسد، لأنه كان قد حول حياتنا إلى جحيم، لكننا نخشى أن يكون البديل أسوأ. نسمع الكثير من القصص عن الانتقام من الأقليات، وهذا يضعنا في موقف حرج للغاية”.
لكن فرج، كغيره من مسيحيي سوريا، يأمل في أن يُحترم التعايش الديني الذي ساد البلاد لقرون طويلة، وقال: “لقد عشنا جنباً إلى جنب مع المسلمين، والدروز، والأكراد، في سلام. نريد أن يعود ذلك ما نحتاجه الآن هو السلام. وإذا ضاع هذا الأمل، سنفقد كل شيء”.
بدورها، قالت رانيا دولباني: “حسناً، اليوم احتفلنا بانتهاء النظام الذي كان يهدد وجودنا، لكن يبدو أن هناك من يعتقد أن الأمر لا يزال بحاجة إلى بعض التوابل. تلقيت بعض التهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولأنني مسيحية، يبدو أنني دخلت على قائمة التهديدات التي لا بد من التعامل معها”.
وتابعت: “قرأت تعليقات تقول: سنقتلكم لأنكم مسيحيين، وكأنها حملة دعائية جديدة. في الحقيقة، لم أكن أعلم أن ديننا أصبح سبباً لكتابته في كتاب (الأعداء). الآن، أشعر أننا في مسابقة لاختيار من سيتحمل الرقم القياسي في التهديدات عبر الإنترنت”.
وأضافت بتفاؤل هش: “لكن لا بأس، سأظل آمل أن تكون هذه الحملة مجرد حالة فردية. في النهاية، نحن فقط نريد أن نعيش بسلام في سوريا، حيث يكون الحق في الحياة مضموناً للجميع، بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم. على الأقل، نأمل ألا يكون التهديد على فيسبوك هو بداية فصل جديد”.
أما الدروز، الذين يشكلون أقلية صغيرة في سوريا، فقد كانوا دائماً حذرين في علاقتهم مع النظام السوري، حيث لم يكونوا من المقربين له، ومع التحولات السياسية التي تشهدها البلاد، يشعر العديد من أفراد هذه الطائفة بقلق بالغ من المستقبل.
وفي الإطار قال سامر عزام، وهو درزي من جبل الدروز في السويداء: “نخشى أن نجد أنفسنا في موقف صعب، فبعض الأطراف قد تستخدمنا ككبش فداء في الصراع القائم. نحن لم نكن جزءاً من النظام السابق، لكن مع صعود الفصائل المتشددة، نخشى أن نتورط في تصفية الحسابات السياسية”.
ومثل الكثير من السوريين، يعلم سامر أن “الحروب لا تنتهي بمجرد سقوط الأنظمة”، كما يعلم أيضاً أن “الآمال في بناء وطن مشترك لا تموت، مهما كانت التحديات”.
وكان قائد إدارة العمليات العسكرية، أحمد الشرع الملقب بـ “أبو محمد الجولاني”، شدد الاثنين الماضي، خلال لقائه وفداً من أبناء الطائفة الدرزية، على أهمية حضور عقلية الدولة بدلاً من عقلية المعارضة، وضرورة بقاء سوريا موحدة، ووجود “عقد اجتماعي” بين الدولة وجميع الطوائف لضمان العدالة الاجتماعية.
وشدد على ضرورة عدم وجود محاصصة أو خصوصية تؤدي إلى انفصال، مضيفاً: “نحن ندير الأمور من منطلق مؤسساتي وقانوني، ونسعى لتحقيق الأفضل للشعب السوري”.
أصوات رجال الدين
ومع تصاعد القلق بين الأقليات، يبرز دور رجال الدين الذين يسعون إلى تهدئة النفوس.
وقال الأب إلياس، الذي يرأس أحد الكنائس في حي القصاع بدمشق: “نعيش في فترة انتقالية، والجميع يشعر بالخوف، لكن هذا ليس وقت الانقسام. نحن نحتاج إلى إظهار الوحدة والتضامن بين جميع الطوائف. لا يمكن أن يكون لدينا مستقبل من دون تفاهم بين الجميع”.
وأضاف أن الكنيسة “لا تدعو إلى الطائفية أو الانعزالية، بل تحث على التعايش والاحترام المتبادل. نحن جميعاً سوريون، وهذه الأرض هي وطننا. يجب أن نعمل معاً من أجل بناء سوريا جديدة، سوريا لكل السوريين”.
وكان قد انتشرت بيانات عدة موقعة من رجال دين ومشايخ علويين في الساحل السوري، أعربوا فيها عن تأييدهم لـ”النهج الجديد وللجيش الوطني”، والتعاون مع الهيئة والجيش الوطني الحر لبناء “سوريا الجديدة”.
وجاءت هذه البيانات بعد لقاء مجموعة من مشايخ الطائفة العلوية مع ممثلين عن “هيئة تحرير الشام”.
وتشير تقديرات رسمية أميركية نشرتها الخارجية الأميركية إلى أن حوالي 74 % من سكان سوريا هم من المسلمين السنة، وتشمل هذه النسبة العرب والأكراد والشركس والشيشان والتركمان.
أما الجماعات المسلمة الأخرى، مثل العلويين والإسماعيليين والشيعة، فتشكل نحو 13 % من السكان، فيما تمثل الطائفة الدرزية حوالي 3 % من إجمالي عدد السكان، إلى جانب ذلك، هناك أقلية مسيحية تقدر بنحو 10 % من السكان، بالإضافة إلى مجتمعات دينية وإثنية أخرى، ما يعكس التعددية الثقافية والدينية التي تتميز بها سوريا.