تشهد ألمانيا حالياً فترة اضطراب سياسي غير مسبوق، وذلك بعد إعلان المستشار الألماني أولاف شولتز خططاً للتصويت على سحب الثقة من حكومته في ديسمبر المقبل، ما قد يمهد الطريق لانتخابات برلمانية مبكرة في فبراير من العام المقبل.
وجاء هذا التصعيد عقب انهيار الائتلاف الحاكم المكون من ثلاثة أحزاب، هي الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر، والديمقراطيين الأحرار، وسط خلافات بشأن كيفية معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية التي تمر بها البلاد.
وسيكون لانهيار الائتلاف الحاكم في أكبر اقتصادات الاتحاد الأوروبي، تداعيات ربما تصل إلى القارة العجوز.
كيف وصلت ألمانيا إلى هذه المرحلة؟
في عام 2021، شكل الحزب الاشتراكي الديمقراطي (يسار وسط) الذي يقوده شولتز، وحزب الخضر (ذو ميول يسارية) بقيادة نائب المستشار وزير الاقتصاد روبرت هابيك، والحزب الديمقراطي الحر (المؤيد لقطاع الأعمال) بقيادة وزير المالية كريستيان ليندنر، وهو الحزب الذي غالباً ما كان يتحالف مع المحافظين، ائتلافاً طموحاً وتقدمياً، يسعى لتحديث ألمانيا عبر تجاوز انقسامات أيديولوجية.
وحققت الحكومة بالفعل بعض الإنجازات نتيجة لتشكيل هذا الائتلاف، بما في ذلك منع دخول البلاد في أزمة طاقة بعد أن قطعت روسيا إمدادات الغاز عن البلاد، وبدء تحديث الجيش، ودفع سلسلة من الإصلاحات الاجتماعية، لكن الانطباع الذي تركته لدى العديد من الألمان كان احساساً بعدم الكفاءة، وصراعات داخلية مستمرة.
وانهار الائتلاف، عندما أقال شولتز وزير المالية ليندنر بعد خلافات بشأن كيفية إنعاش الاقتصاد المتدهور، وذلك بعد أسابيع من الخلافات الداخلية حول كيفية تعزيز الاقتصاد الذي كان يُعتبر حتى وقت قريب قوة اقتصادية كبرى في أوروبا.
تحديات اقتصادية
تعرض الاقتصاد الألماني للانكماش خلال العامين الماضيين في أعقاب جائحة فيروس كورونا، والغزو الروسي لأوكرانيا والمنافسة مع الصين، إذ فشل ائتلاف شولتز المنقسم في إيجاد سبيل للمضي قدماً في بعض القضايا الرئيسية التي تواجه البلاد.
ورفض الحزب الديمقراطي الحر، بقيادة ليندنر، زيادة الضرائب أو تعديل القيود الصارمة التي تفرضها برلين على الديون، فيما أراد الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر رؤية استثمارات حكومية ضخمة، ورفضا مقترحات الديمقراطيين الأحرار لخفض ميزانيات برامج الرعاية الاجتماعية.
وربما يواجه الاقتصاد الألماني مخاطر جديدة، بعد عودة الرئيس الأميركي المُنتخَب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، إذ هدد بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 20% على السلع الواردة من الاتحاد الأوروبي، ما يزيد من احتمالية نشوب حرب تجارية مع حلفاء واشنطن الأوروبيين.
وفرض مثل هذه التعريفات الجمركية سيشكل ضربة قوية للصادرات الألمانية، وكذلك انتكاسة كبيرة أخرى للاقتصاد الذي لطالما اعتمد على الطاقة الرخيصة والوفيرة من روسيا، وأسواق التصدير الكبيرة.
ماذا سيحدث بعد ذلك؟
شولتز أعلن أمام البرلمان أنه سيقدم طلباً للتصويت على سحب الثقة في 11 ديسمبر المقبل، حتى يتمكن البوندستاج (البرلمان الألماني) من اتخاذ قرار بشأنه في يوم 16 من الشهر نفسه، وحتى ذلك الحين، سيقود الاشتراكيون الديمقراطيون، والخضر ألمانيا في حكومة أقلية.
ومن المتوقع أن يخسر شولتز تصويت الثقة، ما سيحدد بعد ذلك المسار لإجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة في 23 فبراير المقبل، أي في غضون ما يزيد قليلاً عن 100 يوم.
وفي حال خسر شولتز تصويت سحب الثقة، فسيكون لدى الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، 21 يوماً لحل البرلمان، وقد أشار بالفعل إلى أنه سيفعل ذلك، لكن حل البرلمان يعد إجراءً شكلياً في العملية التي تؤدي في النهاية إلى إجراء انتخابات جديدة.
أبرز المرشحين لمنصب المستشار
قال شولتز إنه يريد الترشح لمنصب المستشار مرة أخرى، لكن حتى الآن لم يُرشح رسمياً من قبل حزبه، كما أعرب بعض أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي، عدم رغبتهم في ترشحه مرة أخرى، بسبب شعبيته المنخفضة في الوقت الراهن، واقترحوا ترشيح وزير الدفاع، بوريس بيستوريوس، الذي يعد أحد أكثر السياسيين شعبيةً في برلين.
وفي سبتمبر الماضي، اختير فريدريش ميرز، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، من يمين الوسط، وهو حزب المعارضة الرئيسي في البرلمان، كمرشح رسمي من قبل حزبه الذي يتصدر استطلاعات الرأي حالياً، ومن المرجح أن يصبح ميرز مستشار ألمانيا الجديد.
وبدأ ميرز التحضير لحملته الانتخابية بالفعل، وقال أمام البرلمان مؤخراً: “ثمة شعور كبير بالارتياح الآن في بلدنا، وما يسمى بالائتلاف التقدمي أصبح مجرد تاريخ، وهذا خبر سار لألمانيا”.
وبالنسبة لحزب الخضر، فإنه سيرشح وزير الاقتصاد الحالي ونائب المستشار هابيك، لمنصب المستشار، لكن الحزب الصغير، خسر بعض شعبيته في الانتخابات الأخيرة، أما حزب “البديل من أجل ألمانيا”، اليميني المتطرف، فيعتزم إعلان ترشيح زعيمته، أليس فايدل، الشهر المقبل.
وأظهرت استطلاعات رأي، حسبما نقلت “أسوشيتد برس” حصول حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بقيادة ميرز، على نحو 30%، فيما جاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة شولتز، في المرتبة الثالثة بنحو 16%، بعد حزب “البديل من أجل ألمانيا”، الذي حظي بتأييد نحو 19% من المستطلعين.
ماذا يعني هذا بالنسبة لليمين المتطرف؟
من السابق لأوانه، القول ما إذا كان حزب “البديل من أجل ألمانيا” الشعبوي سيحقق فوزاً كبيراً في الانتخابات المقبلة، ومع ذلك، فإن استطلاعات رأي تشير إلى أنه سيحقق مكاسب ضخمة مقارنةً بالانتخابات البرلمانية، التي أُجريت في سبتمبر 2021، عندما حصل على 10.4%.
وحقق “البديل من أجل ألمانيا” نتائج كبيرة بالفعل في الانتخابات المحلية الأخيرة، إذ فاز في انتخابات الولايات في ولاية تورينجيا الشرقية لأول مرة في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما احتل المركز الثاني بفارق ضئيل جداً عن المحافظين، الذين عادةً ما يفوزون في ولاية ساكسونيا في سبتمبر الماضي.
وساهمت عوامل عدة في دعم حزب “البديل من أجل ألمانيا”، من بينها الشعور العميق بالاستياء من الصراعات الداخلية المستمرة في الحكومة الألمانية، والمشاعر المناهضة للهجرة، والتشكيك في جدوى المساعدات العسكرية الألمانية لأوكرانيا.
والحزب يعد الآن في أقوى حالاته في شرق البلاد، الذي كان يخضع للحكم الشيوعي سابقاً، فيما وضعت وكالة الاستخبارات الداخلية، مقراته في ساكسونيا وتورينجيا تحت المراقبة الرسمية باعتبارها مجموعات مُثبت انتمائها لـ”اليمين المتطرف”، كما أُدين زعيمه في تورينجيا، بيورن هوكه، باستخدام شعار نازي عن عِلم في بعض الفعاليات السياسية.
وكانت الأحزاب اليمينية المتطرفة حققت انتصارات كبيرة في الانتخابات الأخيرة في جميع أنحاء أوروبا الغربية، بدءاً من إيطاليا إلى فرنسا وهولندا.