عُرف كاوه أكبر، المولود في إيران سنة 1989، كشاعر شاب، اختطّ صوتاً شعرياً متفرّداً في الأوساط الأدبية الأميركية، كما عكست ذلك مجلات “نيويورك تايمز” و”باريس ريفيو” و “نيويوركر”، فضلاً عن حيازته الجوائز الرفيعة. وهو يفاجئ اليوم القرّاء برواية أولى، تنافس حالياً على الجائزة الوطنية الأميركية للكتاب. (نشرت دار غاليمار ترجمة فرنسية لها عام 2024).
بطل روائي بلا بطولة
حملت الرواية نظرة جديدة من خلال استلهام موروث إيران الثقافي، لدى بطلها (سايروس شمس) أو (كيروش بالفارسية)، واعتماد البوح الجريء حول الاكتئاب والإدمان والعنصرية، كرواسب ناتجة عن طفولة ثم مراهقة عاشها في ولاية إنديانا، وخيّم عليها شبح الخوف والموت.
وقال بافلين، محرّره، “إن الكاتب أكبر يشبه “العصب المكشوف”.. “إنه مثل القلب الذي يتجوّل في العالم، وهذا الجمال موجود في كل مكان في الرواية”.
في السياق الروائي، يفقد (سايروس شمس) والدته (رؤيا)، وهو ما يزال رضيعاً، عندما أسقط صاروخ أميركي، الطائرة المدنية الإيرانية التي كانت تستقلّها، فوق الخليج العربي وهي في طريقها إلى دبي، لزيارة خاله، أراش شيرازي، نتيجة سوء تقدير، في الأيام الأخيرة للحرب العراقية الإيرانية (1980-1988).
خلّفت هذه الصدمة أثراً فظيعاً عليه لاحقاً، أعقبها موت والده إثر سكتة دماغية، لكنه رحل بعد أن اطمأن على مستقبله بدخوله الجامعة. وكان والده هاجر إلى الولايات المتحدة استجابةً لعرْض عمل في مزرعة، وعاش مهموماً في الدولة التي قتلت زوجته.
نشر الكاتب قصيدة عام 2019 جاء فيها: “الموت هو أحد الأساليب لجعل الجروح ذات معنى؛ الفن شيء آخر. هو سجل للعقبات التي تغلّبنا عليها، أو على الأقل للمعارك التي لم تقتلنا بعد، إنه المكان الذي يبقى فيه ما ننجو منه”.
بحث في معنى الموت
تبدأ الرواية من لحظة اليتم التي حوّلت حياته إلى جحيم، فنراه شخصاً معزولاً، ملقى على فراش متّسخ، غارق في لحظة إدمان قوية، يبكي من دون سبب، ويعض أصابعه حتى تنزف دماً.
يقرّر (سايروس شمس) التوقف عن الإدمان ومعالجة نفسه. يدخل في حلبة صراع ثلاثي، من أجل تدبير لقمة عيشه أولاً، بالاشتغال ممثلاً في مستشفى، حيث يؤدي دور من ينتظرهم الموت، إثر أمراض لا علاج لها، وذلك أمام أطباء شباب في طور التكوين ليختبروا قدراتهم.
يمنحنا ذلك صفحات من الأدب الممزوج بنزعة تشبه تيار العبث في الأدب. يقول بأنه يفضّل هنا كلمة “الذين سيهلكون” الواردة في القرآن الكريم، عوضاً عن كلمة سيموتون”.
ثانياً، يلتزم حضور حلقات استماع “المدمنين المجهولي الهوية”، وحلقات الاستماع عبر مكبّر صوت مفتوح في الجامعة، حيث يلتقي بمصائرَ مشابهة لمصيره، عنوانها الكآبة الوجودية التي ترافق سؤال المعنى من جدوى الحياة حين تنتفي السعادة، مع وجود قدر الموت المحتوم.
وثالثا وأخيراً، يصارع طويلاً هوس الورقة البيضاء كي يكتب الشعر، من أجل الوصول إلى فهم أسئلة الحياة والموت.
إيقاع الفقد
تتوسّع الرواية في هذه الجوانب الثلاثة عبر فصول تحمل أسماء أيام، وفصولٍ تحمل أسماء أمه وأبيه وعمّه وأصدقائه، وأسماء من سيلتقيهم في مسار البحث الطويل عن الخلاص المعنوي على امتداد 330 صفحة، استعرض فيها ماضي العائلة في إيران وفي الغرب الأميركي، وتحدث عن الحاضر الذي يقع تحت سطوة هذا الماضي الأليم.
فالبطل (سايروس)، لم يستطع التخلّص من الشعور بأنه كان سيقضي مع والدته، لولا أن عمره آنذاك لم يسمح له بالسفر في الطائرة. وعمّه أصيب بصدمة نفسية عميقة، كونه من قدامى المحاربين في الحرب الإيرانية العراقية. فنراه وهو يجوب حقلاً مليئاً بجنود قتلى، متقمّصاً هيئة ملاك الموت.
أما والده الصامت دائماً، فلم يتحمل كثيراً ما وقع له، فآل على نفسه أن يوصل ابنه إلى سن الرشد قبل أي انتكاسة قد تصيبه.
لذا ليس غريباً أن تتضمن الرواية أحلاماً سرياليةَ الوقائع، بلا رابط منطقي، تظهر فيها مثلا والدته تحاور الشخصية الكارتونية المعروفة ليزا سيمبسون.
هوس الشهادة
ولأنه شاعر، ارتأى (سايروس) أن يواجه الموت، وأن يطلب “الشهادة”، ليس من أجل وضع حدّ لحياته، بل بهدف إيجاد معنى للموت، وحكمة ما وراء حدوثه. فيقرر تدبيج كتاب مرثيات تضم ّكل من فقدهم، ويستحضر الشهداء المعروفين تاريخياً، مثل الفرنسية جان دارك، التي قاومت الإنجليز وأُحرقت حيّة، والإيرلندي بوبي ساندس، الذي مات في السجن بعد إضراب طويل عن الطعام.
يقول الكاتب في هذا الصدد: “الأمر لا يتعلق بالإسلام، بل هو عن الشهداء المسالمين. أشخاص ضحّوا بحياتهم من أجل شيء أكبر من أنفسهم”.
خلال بحثه، يسافر (سايروس) إلى نيويورك، لإجراء مقابلة مع فنانة إيرانية مسنّة، تُدعى أوركيدي، مريضة بسرطان الثدي، ومشرفة على الموت بعد أن تخلت عن العلاج. وكانت قررتْ عرض حالة الاحتضار التي تعيشها في فن أدائي داخل باحة معرض. فتنشأ بينهما علاقة، ويرتبط هو بحقيقة الموت مباشرة، بعد أن خبر آثاره التراجيدية في حياته، وفي الفن والتاريخ، ما سيجعله يشرع في حل مشكلاته الميتافيزيقية تدريجياً.
خلفية الكتابة.. الشعر
ما تم تلخيصه أعلاه، يسبح في نص نثري غني، يحتوي على الكثير من الحكايات، وعلى اقتباسات من الشعر، ومن كتابات الكاتب كاوه أكبر نفسه، من زوايا نظر مختلفة تروي الأحداث.
فموضوع الرواية، بقدر ما هو سعي حثيث لفهم الغاية من الحياة التي تنتهي بالموت، هو في الوقت نفسه، تجربة إبداعية في فن الكتابة على إيقاع الشعر.
يقول الكاتب: “الأبجدية، مثل الحياة، هي مجموعة محدودة من الأشكال، بواسطتها، يمكن للمرء أن ينتج أي شيء تقريباً”. فلا يخفى على قارئ الرواية التشابه الكبير بين البطل والروائي كاوه أكبر. لقد كتب روايته كردٍّ على وضع اجتماعي أرَّقه كثيرا.
يقول: “تمّ انتزاعي من البلد الذي ولدتُ فيه، وسقطتُ في هذا البلد الذي يُشعرني وكأني لا أنتمي إليه بالفعل [..] وهذا يخولني أن أتصرّف بفظاظة، وأن أتجاهل ما بداخل الآخرين، وأن أكون قاسياً، وأن أكون رافضاً” .(shondaland.com).
وبهدف إعلان الرفض، وظّف حادث الطائرة، كمنطلق لكتابة رواية صادحة بالصراخ، عن وضع مقلق للروح، فحقّق بالتوازي إبداعاً سردياً متقناً، على غرار كبار كُتّاب الرواية في أميركا، وأبدى رأيه غير المهادن في المجتمع المفروض عليه.
جلال الدين الرومي
نجد الكاتب الإيراني الشاب، في الفصل الذي يروي فيه حلماً، يُحقّق لقاءً بين أبيه علي شمس، والعالِم جلال الدين الرومي، فيظهران في خلفية مقهى أميركي، يتحدّثان في مكان يصدح بالموسيقى.
قال علي شمس للرومي: “ابني سايروس يريد أن يصبح شاعراً، ويود مقابلتك. ثم أردف: “هل تعرف سايروس؟ ابتسم جلال الدين الرومي وردّ عليه بالقول. بالطبع.. فما الذي جاء بي إلى هنا؟ لقد استغرق الأمر مني بعض الوقت، لكني وصلت”.
كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” في ملحق الكتب في 19 يناير 2024 :”بغض النظر عن بعض الأخطاء، فإن ما قام به أكبر في رواية “شهيد” أقلّ ما يمكن أن يقال عنه أنه معجزة”.