يقيم مركز بومبيدو في ملقا- إسبانيا، معرضاً حول علاقة الإنسان بالطبيعة، التي تأثّرت سلباً نتيجة الحروب والإنتاج الصناعي والتدخل اللامسؤول بشؤونها، بعنوان “الانتماء إلى المكان” أو (PLACE NESS).
يستمر المعرض حتى مارس 2025، ويقدّم فرصة للفنانين في اجتراح الحلول الجمالية، من أجل تلافي الكارثة البيئية والاجتماعية والنفسية، عبر تصوّرات تسهم بتنظيم الطرق والساحات والحقول، وإعادة تدوير المواد والأنقاض، وصولاً إلى العمارة الخضراء.
يشارك في المعرض نحو 25 فناناً من بلدان مختلفة، منها فلسطين (جواد المالحي)، الكاميرون، نيجيريا ، الصين، جورجيا ، فرنسا، بولونيا وغيرها. اللافت، هو مشاركة فنانات عالميات شهيرات بأعمال مشهدية، في أقسام المعرض وهي:
تفكيك الكليشيهات، تدوير المواد، إعادة التفكير في الديناميكيات الإقليمية، العيش في الفضاء العام، إعادة تشكيل الأحلام والوقائع.
يشجّع المعرض النظرة التبادلية المتوازنة ما بين الإنسان والطبيعة، ويدفع الكثيرين للانتقال إلى الريف، على أمل استعادة الحياة السلمية، بعيداً عن ضغوط المساحات الخضراء وتراجعها.
تتجاوز الأعمال المعروضة هذا التناقض ما بين الحضري والريفي. والهدف هو جعل نظرتنا للمكان تشاركية، كما تُعتبر الأرض نتاجاً لأحداث تاريخية، وقرارات سياسية، تعكس تحوّلات وتوترات المجتمع المعاصر.
تُحلّل أقسام المعرض الطريقة التي نعيش بها في الفضاء العام، والتركيز على أساليب تفاعل البشر مع بيئتهم وتأثيرهم عليها، إذ استخدم بعض الفنانين المواد الطبيعية أو الصناعية، لتحويلها وإعادة التفكير في طريقة رؤيتنا للعالم.
لا تتجاهل التوطئة التي يقدّمها المشاركون، حتمية وجود النشاط البشري وعواقبه على الأرض (ربما سنشهد النشاط الاستعماري على الكواكب، والقمر والمريخ قريباً).
كوكبنا، هو نتيجة لخيارات جيوسياسية وعلمية واجتماعية وثقافية، لها عواقب على الأرض، كما تحدّد الطريقة التي نتفاعل بها، مستقبل بيئتنا في علاقة، يجب أن تكون تداولية، “أرضنا الخادمِة والمخدومة في الآن ذاته”، بينما يسبب التعامل مع الطبيعة باعتبارها خادِمة فحسب، السيطرة عليها قسراً والفتك بها.
الفن ضد تسليع الطبيعة
يتناول الفنانون في مركز بومبيدو في ملقا، قضية الإفراط في الإنتاج الصناعي، وتسليع البشر تجريداً لهم من قوتهم الرمزية والروحية، خدمة للمعايير الاقتصادية والسياسية، المُؤدية إلى الخضوع لأنظمة الإنتاج الصناعي والتكنولوجي المُضرّة بأجسادنا وعواطفنا.
عبرّت الأعمال عن صرخة احتجاج ضد تسليع الطبيعة، كما في نُصب “كرسي أنيق بحامل صناعي”، من تنفيد (استديو 5.5).
مخيمات الأجساد الفلسطينية
يتناول الفنان الفلسطيني جواد المالحي في عمله “معايير عدم اليقين 14″، وهي سلسلة أعمال، تعتمد تقنية التصوير الفوتوجرافي والفيديوهات، استعراضاً لحالة العيش غير المضمونة في المخيمات الفلسطينية، حيث ولد المالحي وعاش هناك.
وعلى الرغم من وجود الفضاء المألوف من شوارع ومقاهٍ وطرق، لكن اللايقين والتوتر والقلق وعدم الاستقرار ، يُبرز الوجوه وكأنها عالقة ومتورّطة في العيش، أي السكن في اللايقين الاجتماعي والاقتصادي والإنساني، جراء الفضاء غير المضمون وغير المؤهل للعيش. اشتهر الفنان المالحي، بتوليفة الفضاء وأثره الاجتماعي والنفسي.
في السياق ذاته، يمجّد النصب الجداري للفنان الياباني شيغرو، عبر مجموعة كراسي معلّقة على الجدار، الخشب، باعتباره المساهم الرئيس لإنتاج وسائل الراحة والعمل والتفكير.
لوحة الفنان الفرنسي فرناند ليجيه “فراشتان صفراوان على سلّم”، وهو الذي يشتهر بتكعيبيته وأشكاله الهندسية، تشير إلى مدى التخادم ما بين صعود وتقدّم الإنسان، وفضل الطبيعة عليه.
إذ يُمثل السلّم والفَراشتان رحلة صعود إنساني نتيجة الطبيعة، كما تخدم الألوان البهيجة والأشكال الهندسية في اللوحة، فكرة تعاضد الإنسان والتكنولوجيا في العلاقة المعقدة بينهما.
هناك أيضاً عمل تركيبي “دائرة من الحجارة الجبلية”، للفنان البريطاني ريتشارد لونغ، وهو من أشهر فناني “فن الأرض”، المعروف باستخدامه للعناصر الطبيعية مثل الحجارة والطين، لإنتاج أعمال فنية تتفاعل مع البيئة أو تستلهم منها.
هذا النمط من الترتيبات الهندسية للحجارة، يعكس أسلوبه المُميّز في المواد الخام، لإنشاء تركيبات تتفاعل مع الفضاء الذي تُعرض فيه. يستضيف مركز بومبيدو في باريس بعضاً من أعمال الفنان المعاصرة.
المشاركة الفنية النسوية في مركز بومبيدو
يبدو أن اللوحة الصالونية أو المتحفية ستتراجع لجهة الأعمال المشهدية التركيبية، وذلك محاكاة للفضاءات العامة والساحات، أي الاشتغال على مفهوم الفرد عبر الجماعة، أو الفرد مكوناً من نفسه جماعة، تفكيراً بالحرية.
جسّدت أعمال الفنانات المشاركات من بلدان عدّة (نيجيريا، النمسا، بولونيا ، جورجيا، الصين ورومانيا، وقد عرضن سابقاً في متاحف في نيويورك، وباريس ولندن) تفاعل البشر مع محيطهم المرهون إلى عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية، فالإنسان ليس حرّاً بعلاقته مع الطبيعية.
استعمال القطن والصوف والألياف، إشارة إلى الإنتاج الزراعي والمحافظة على البيئية، حيث قدّمت الفنانة البولندية ماغدالينا أباكانوفيتش، عملاً نسيجياً كبيراً، حول تأثير البيئة على هوية الإنسان.
بينما تناولت الفنانة الصينية فيرانس لي، مشاهد من الحياة اليومية في المساحات الحضرية. وأشارت الفنانة غلوريا فريدمان صراحة، إلى تأثير التكنولوجيا والإنتاج الصناعي على المساحات الخضراء.
من أبرز الأعمال التي انتخبتها الصحافة الإسبانية مجلة “كومبوسور” مثالاً هو عمل الفنانة النيجيرية- البلجيكية أوتوبونغ نكانغا، بعنوان”ثقل الندوب”.
يدين عملها الاستعمار في أفريقيا وسياساته الجائرة، وتبعاتها على الهوية الوطنية والطبيعية، في سوء استعمال الموارد هناك من طريق تقنية النسيج والفوتوجرافيا، لتظهر مناطق محفورة (الندوب في الأرض) تشويهاً للطبيعة جراء الاستغلال الاقتصادي الاستعماري البشع.
يقول الفنان البريطاني الشهير ديفيد هوكني لموقع “دليل ملقا”:”أتناول في عملي “وصول الربيع إلى وولدجيت” في يوركشاير، كيفية صراع الإنسان مع الطبيعة والثقافة؛ التناقض بين البيئة الطبيعية والاصطناعية، كما تبرز اللوحة كيف يمكن للفن أن يكون أداة لفهم الصراع بين الإنسان والطبيعة، عبر رسم المناظر الطبيعية، باستعمال التقنيات التقليدية والتكنولوجيا الرقمية، ما يعكس هذا التفاعل بين ما هو طبيعي وما هو مصنوع من قِبل الإنسان.
يصف الفنان الفرنسي فرانسوا بويون عمله “صدى صدى”، العلاقات بين الإنسان والعالم الطبيعي، مستخدماً الضوء كعنصر أساسي يعكس التغيرات الطبيعية، ويخلق تفاعلًا بين المشاهد والمكان.
أما الفنان ميرسيا كانتور، فيرى أن الفن وسيلة لاستكشاف التضاد بين الاستهلاك والطبيعة. في عمله “جيوب للحكّة”، يستخدم مواد غير تقليدية مثل نبات القراص والأرض والملابس لاستكشاف الاستهلاك وكيف يؤثر على البيئة، بحسب موقع “ملقا كورو”
الفنان بارتليمي توغو (الكاميرون) يستخدم في عمله بعنوان “الخلاص”، الكراسي العملاقة كرمز للعلاقات الاجتماعية والديناميات البشرية في الأماكن العامة، مستكشفاً مفهوم المساكن الجماعية وتأثيرها على الروابط الاجتماعية.
تركز الفنانة فيرا باجافا (جورجيا) في أعمالها، على العزلة داخل الفضاءات الحضرية، “الذاكرة والمنظر الطبيعي”، من خلال تصوير الأماكن الصناعية المهجورة، والشعور بالاغتراب الذي يعانيه سكان المدن الكبرى، ما يعبّر عن الانفصال ما بين الفرد والمجتمع في هذه البيئات، كما تقول جريدة “أوليف برس”.