يتناول هذا المقال الزجل الفلسطينيّ من مدخلين؛ الأوّل، الصورة التاريخيّة للزجل الفلسطينيّ وحضوره في المجتمع الفلسطينيّ خلال العقود الأربعة الماضية. ثانيًا، الصورة الّتي أصبح عليها الزجل الفلسطينيّ في الحاضر، والتغيّرات الّتي طرأت عليه في جوانب مختلفة، وكيف تأثّر بالانفتاح الحضاريّ والمدّ التكنولوجيّ مع الحفاظ على جذور عراقته بحلّة جديدة، مثبّتًا صلاحيّته لكلّ زمان ومكان.
الزجل، الزجّال، الحداء
الزجل هو الشعر العامّيّ والشعبيّ الّذي يتغنّى بلهجة الشعب العامّيّة بألوانها وأبوابها المتعدّدة، يتلاقى مع الشعر الفصيح بمضامينه وأشكاله، وتملؤه العاطفة والروح والشعور. لكنّه أسهل في تحقيق الشهرة، وأسرع انتشارًا من الشعر الفصيح، لأنّه يتكلّم بلهجة الناس العامّيّة فيفهمه المثقّف والأمّيّ والصغير والكبير. والزجّال هو الإنسان الّذي يؤلّف الزجل ويغنّيه[1].
تشمل كلمة الزجل كلّ ألوان الزجل والحداء، من قصيد وعتابا وميجنا ومحاورات ومربّع. ولن أفرّق بين الزجل والحداء لأنّ الفروق بسيطة، ولأنّ الزجل والحداء حاضران في كلّ حفلة شعبيّة فلسطينيّة. أمّا اختيار كلمة الزجل عنوانًا للمقال وليس الحداء، فذلك لأنّ الزجل أشمل وأعمّ في فلسطين وغيرها من بلاد الشام.
حضر الزجل الشعبيّ تاريخيًّا بشكل واسع في بلادنا، فلسطين، وكان زجلًا مغنًّى ترافقه السحجة والدبكة والرقص، بصحبة الآلات الموسيقيّة التراثيّة مثل الشبّابة، والناي، واليرغول، والربابة، وغيرها. وهذا ما جعل من الزجّال الشعبيّ شاعرًا، ومغنّيًا في الوقت نفسه؛ فهو يؤلّف الزجل ويغنّيه، ويلحّنه بما يتلاءم مع كلّ لون زجليّ في مقامات موسيقيّة عفويّة.
عتابا على مقام البيات
قبل نحو أربعين عامًا، كانت الحفلات الفلسطينيّة تعتمد على الزجل اعتمادًا كبيرًا، وقد تقوم الحفلة كاملة على أشعار زجّالين مجيدين للزجل وألوانه دون أن يكون في الحفلة آلة موسيقيّة واحدة، وإن وُجِدَتْ الموسيقى يكن النصيب الأكبر للزجل دونها. وقد كانت تحضر في بعض الحفلات الّتي تتطلّب الدبكة، أو غيرها من أشكال الفرح الفلسطينيّ، بعض الآلات الموسيقيّة التراثيّة، لكنّ النصيب الأكبر كان للكلمة والمعنى.
بعد تطوّر الآلات الموسيقيّة، والتطوّر التكنولوجيّ الّذي غزا العالم مع سيل العولمة الجارف، بدأ حضور الزجل الفلسطينيّ الّذي يخلو من الموسيقى والإيقاع بالتقلّص، وأصبح للموسيقى حضور أكثر وضوحًا ممّا كانت عليه قبل. وبعد عام 2010 تقريبًا، أصبحت الموسيقى أكثر تجلّيًا وسطوعًا ممّا كانت عليه من قبل؛ فقد أصبحت حفلة العرس تنقسم إلى قسمين: قسم الزجل والحداء، وقسم الحفلة الموسيقيّة، لكنّ هذا لم يعق الزجل من الظهور، بل كان الزجّال في القسم الثاني يغنّي ألوانًا كثيرة من الزجل الشعبيّ، لكن برفقة آلات موسيقيّة فلسطينيّة تراثيّة، وغير فلسطينيّة الأصل، مثل العود والأورغ والدرامز.
تمكّن الزجل من التأقلم مع مقامات الموسيقى العربيّة، والآلات الموسيقيّة الحديثة، وذلك يعود إلى مرونته وديناميكيّته الّتي جعلته يسير مع التطوّر والتغيّر الموسيقيّ دون تغيّر جذريّ في أصله؛ فبدأت التغيّرات الموسيقيّة تُظْهِر ألوان الزجل الفلسطينيّ بحلّة جديدة. مثلًا، أصبحت المحاورات الزجليّة مثل المربّع والمثمّن – وهما لونان شهيران من ألوان الزجل الفلسطينيّ – أكثر سرعة في الإيقاع، وتغيّر اللحن القديم دون أن يؤثّر ذلك في بنيتيهما وصورتيهما التراثيّات المتجذّرات في تربة الزجل الفلسطينيّ القديم، وأصبحت المقامات العربيّة الشرقيّة تدخل بشكل أوضح على ألوان الزجل الشعبيّ؛ فلم تقتصر العتابا على مقام البيات، بل أصبحت تُغَنّى على مقامات متعدّدة مثل الصبا، والحجاز. وأصبح لون المعنّى الزجليّ يُغَنّى على الرست والبيات، وذلك لا يعني خلوّ الزجل الشعبيّ من هذه المقامات قديمًا، وإنّما كانت حاضرة بشكل عفويّ وبسيط يتفرّد فيها اللون الزجليّ بمقام واحد. لكن، ومع تأقلم الزجل الفلسطينيّ مع المدّ الموسيقيّ، أصبحت المقامات جزءًا حاضرًا ومؤثّرًا فيه، ولها دور مهمّ ومحبّب للذائقة الجديدة المتأثّرة بالثقافات المجاورة، والمنصاعة للتطوّر التكنولوجيّ الحديث.
إيقاعات سريعة
كما أثّرت السرعة في كلّ شيء من جوانب حياتنا، كذلك تأثّر الزجل، فأصبح المتلقّون يحبّون الحوارات ذات الإيقاع السريع، وأصبحت الأغاني التراثيّة أكثر سرعة من قبل، فلو غنّيت اليوم المربّع أو المثمّن باللحن والإيقاع اللذين كانا يتغنّيان على ألسنة شعراء الرعيل السابق – مثل أبي بسّام الجلماوي، وأبي بسّام العراني – لما سمعهما إلّا القليل في تقديري، ولجاءك أحدهم وطلب منهما أن يزيدا سرعة الإيقاع، أو أن يغيّرا اللون.
يمكن رؤية هذا التغيّر في العودة إلى زجّالين قدامى، أو الاستماع إلى محاورات جديدة لشعراء أدركوا القدماء، وما زالوا يمارسون الغناء الشعبيّ حتّى يومنا هذا، مثل الشاعر نعمان الجلماوي والشاعر موسى حافظ وغيرهما. كما أنّ هناك اليوم محاورات اختلفت ألحانها، وتغيّرت إيقاعاتها، لكنّها لم تُحْدِث تغييرًا واحدًا على تركيب اللون الزجليّ العريق، وأصالته، ولم تؤثّر في قوافيه.
في عام 2008، أضاف أحد المهتمّين بالزجل، في نحو عام 2008، الإيقاع إلى بعض المحاورات من المربّع وغيره، لشعراء قرية الجلمة في مدينة جنين، أبو بسّام ونعمان وعصام شعبان الجلماوي، وانتشرت حينذاك انتشارًا واسعًا، ولقيت رواجًا كبيرًا بين الشباب الفلسطينيّ، فكانوا يسمعونها في سيّاراتهم وحافلاتهم وحفلاتهم ومناسباتهم السعيدة.
ساعدت الإضافة الإيقاعيّة على انتشار الرائحة الزكيّة لهذه المحاورات، وزادت من حبّ الناس للحداء والزجل، وزادت من رواجها، وأصبح بعدها الشعراء الشعبيّون ينتبهون إلى هذه الظاهرة، ورغبة الناس فيها، فبدؤوا يُدْخِلون الإيقاع مباشرة في الحفلة عن طريق عازف الأورغ، فتجد الناس يسمعون تارة ويرقصون تارة على أنغام المربّع والمثمّن.
ربّما يكون ذلك لاختلاف إيقاع الحياة، ودخول أصوات ومعازف عديدة إلى المجتمع الفلسطينيّ، فأصبح يبحث عن تجديد في حياته الفنّيّة ينسجم مع تراثه وفطرته، فوجد ضالّته المنشودة في دخول الإيقاع والموسيقى إلى زجله. وقد تكون تسمية الإيقاع بهذا الاسم لما يوقعه من أثر وقبول في نفس المستمع، وهذا ما لاحظناه في مستمعي الزجل الفلسطينيّ الحديث.
إذن، ساهمت الموسيقى في تطوير الزجل الشعبيّ الفلسطينيّ، وفي الحفاظ على حضوره في الحفلات والمناسبات الشعبيّة، وذلك بقبول واسع ومرغوب لدى الأجيال الجديدة، متلائم مع اختلاف الذائقة في هذه الشريحة المجتمعيّة، فليس من الممكن أن تجبر جيلًا جديدًا على لبس ثوب أجداده، وسماع أغانيهم كما كانت عليه دون تغيير ينسجم مع حياتهم المختلفة كلّيًّا عن حياة آبائهم وأجدادهم.
زجل زمن الإنترنت
بعد عام 2010، ازداد تأثير التكنولوجيا في الزجل الفلسطينيّ، فقد دخل الإنترنت جلّ البيوت، وبعد دخول الإنترنت إلى شريحة الجوّال بعد سنوات زاد إقبال الناس عليه، وزاد انتشار مقاطع الفيديو الّتي تخصّ الزجل الشعبيّ والعرس الفلسطينيّ، وأصبح الناس يصوّرون وينشرون حفلاتهم وأعراسهم على مواقع الإنترنت. بالتوازي مع ذلك، ظهرت العديد من شركات التصوير وتطوّرت، وزادت دقّتها، وأصبحت تشاهد الحفلات الفلسطينيّة بدقّة عالية، فانتشرت الحفلات الزجليّة والمحاورات في الوطن كافّة، حتّى وصلت أرجاء عديدة من الوطن العربيّ مثل مصر والمغرب، حيث تفاعل المستمعون العرب مع المحاورات، وشاركوها على صفحاتهم الشخصيّة، وحاولوا الغناء معها كما ظهر حديثًا على منصّة تطبيق «تيك توك».
لكنّ الانفتاح التكنولوجيّ الحديث أثّر سلبًا أيضًا في الزجل الفلسطينيّ وحضوره؛ فبدأ الناس يتعرّفون إلى ثقافات غيرهم، ويتولّعون بنغمات وأغانٍ ليست من تراث فلسطين، وصاروا يطلبونها ويغنّونها في أعراسهم. ومع كثرة المطربين في الوسط الفنّيّ الفلسطينيّ، وزيادة القبول على الأغاني غير الفلسطينيّة، قلّت مساحة حضور الزجل الفلسطينيّ في الساحة الفنّيّة، وظهرت العديد من الأغاني غير الفلسطينيّة، والّتي لا تمتّ للعادات أو التقاليد الموسيقيّة الفلسطينيّة بصلة.
مواجهة التلاشي
تراجع حضور الزجل الشعبيّ في الساحة الفنّيّة الفلسطينيّة لا يعني غيابه، أو زواله، أو تلاشيه، بل ما زال حاضرًا في كلّ عرس فلسطينيّ؛ فلا تخلو حفلة فلسطينيّة من أبيات العتابا، والميجنا، والفرعاويّة (السحجة)، وردّاتها، والغناء التراثيّ، والدبكة، وظريف الطول، وذلك كلّه يعود إلى مرونة الزجل الفلسطينيّ وقدرته على التطوّر والانسجام مع التغيّرات الحديثة. لكن سؤال حداثة الزجل الفلسطينيّ يفرض تساؤلًا: أيّهما أفضل: أن يقف الزجل الفلسطينيّ متحجّرًا بقالبه القديم، عاجزًا أمام التطوّر التكنولوجيّ واختلاف الذائقة؛ فيؤدّي إلى زواله وتلاشيه، أم أن يكون فنًّا مرنًا متلائمًا مع كلّ زمان ومكان؟
إنّ خاصّيّة المرونة للزجل الشعبيّ هي الّتي ستحميه من الزوال والتلاشي، وإن قلّ حضوره في المستقبل فلن يزول زوالًا كاملًا، لكنّ هذه المرونة في حاجة إلى أن توازيها جهود تشكّل سدًّا أمام محاولات طمس هويّتنا الفلسطينيّة، وتراثنا، وزجلنا. ذلك يتطلّب من المؤسّسات الرسميّة أيضًا أن تزيد من اهتمامها بالزجل والتراث، وأن تدعم الزجّالين، وأن تُكْثِر من إحياء المهرجانات التراثيّة الّتي تذكّر الناس بتراثها وزجلها، وترسّخه في الذاكرة؛ ممّا يزيد من احتضانه في حاضنة الشريحة المجتمعيّة الفلسطينيّة على اختلاف سنّها وجنسها.